العلم ووالدين 2024.

كثيراً ما يطرح هذا التساؤل من قبل المهتمين بالعالَمين عالَم العلم وعالَم الدين ومن الطبيعي أن تختلف الأجوبة عنه باختلاف الناس وتنوع مشاربهم. فعندما نتحدث عن الدين فإن التناقضات هائلة الموجودة في إفهام الناس وتصوراتهم عن حقيقته تجعل من الصعب تصور أن تكون الإجابة عن هذا السؤال واحدة عند الجميع. فضلاً عن ذلك فإن مفهوم الناس عن ما هو علمي وما هو غير علمي قضية محل اختلاف أيضاً. وكذلك دور العلم ونوع المعرفة التي يقدمها للإنسانية محل جدال ونزاع عند العلماء والفلاسفة. فالسؤال التالي الذي يطرح نفسه مباشرة عقب التساؤل عن موقف الدين من العلم وموقف العلم من الدين هو أي دين نعني أو أي علم نريد؟ وحيث إنه من المؤكد أن الاختلاف حول حقيقة الدين هو أكبر وأوسع بكثير منه حول حقيقة العلم، فإنه يمكن أن نتجاوز مسألة الاختلاف حول كنة المعرفة التي يقدمها العلم مؤقتاً لنطرح التساؤل من جديد.. ما هي طبيعة العلاقة بين الدين والعلم بوصفهما مصدرين من مصادر المعرفة عند الإنسان؟ هل هي علاقة تعاضدية أم تصادمية؟

في شهر يونيه الماضي اجتمع في جامعة بيركلي الأمريكية مل يقارب الثلاثين من العلماء المتخصصين مع حضور ما جاوز الثلاثمائة من الإعلاميين والصحفيين وغيرهم، وكان من بين العلماء المشاركين في متخصصون مجالات مختلفة مثل الفيزياء والفلك والكيمياء والأحياء والكمبيوتر وغيرها من التخصصات الدقيقة الأخرى، وحائزون على جائزة نوبل في بعض المجالات العلمية، اجتمعوا ليحاولوا الإجابة عن حقيقة العلاقة بين الدين والعلم، وقد غطى هذا الحدث الكبير العديد من وسائل الإعلام العالمية مثل النيوزويك والنيويورك تايمز والعشرات غيرها من أجهزة الإعلام المرئية المسموعة والمقروءة. وكان أبرز ما كتب عن هذا المؤتمر العرض الذي أعدته مارغرت ورثيم لمجلة العلوم الصادرة عن أكاديمية نيو يورك للعلوم عدد أبريل 1999م، والذي سوف نستعرض في ثنايا هذا المقال أهم النقاط الواردة فيه.

أي دين نعني؟

تتحدث كاتبة المقال عن نقطة جوهرية تكررها في ثلاثة مواضع من مراجعتها لقضية الدين والعلم من خلال ما أثير في المؤتمر المذكور آنفاً وهي ما هو الدين الذي نتحدث عنه حينما نعقد المقارنة بين العلم والدين؟ وهو أمر جدير بالاهتمام فكثيراً ما أهملت هذه النقطة الجوهرية عند الحديث عن العلم والدين في كتابات الغربيين، حيث أن أكثر المهتمين بهذا الأمر هم من العلماء الكونيين وليسوا من المتخصصين في علم الأديان، وهم مع ذلك هم ينطقون من خلفية مسيحية أو يهودية فيناقشون مسألة الدين عموماً باعتبارها ممثلة في التراث اليهودي- المسيحي فحسب، أو باعتبار هذه التراث عينة مماثلة للدين بوجه عام. غير أن مارغرت رثيم تنعي هذا الأمر وبشدة على مروجيه وتطالب حين البحث في هذه المسألة بالنظر إلى كافة الأديان والمعتقدات الأخرى حتى وإن كانت معتنقة من قبل قلة من الناس.

وتشدد على هذا الأمر في ختام مقالها مشيرة إلى الصراع القديم الذي كان بين الدين والعلم والذي كان سببه التعصب المسيحي قائلة: "إن ظِلَّ التقليد المسيحي لا يزال يجثم على العالم، ومن الواجب على حركة (العلم والدين) ألا تكرر أخطاء الماضي. والسؤال الذي لا يمكن تجاهله هو: عند أي تأليف بين الدين والعلم أي إله وأي تصور عن الكون يجب تضمنه في هذه العملية".

وهذه دعوة مفتوحة لنا- نحن معشر المسلمين- بأن نمد أيدينا إلى الكثير من القلوب الحائرة التي يكيد لها الإعلام العالمي صباح ومساء صراحةً أو من وراء ستار، بالترويج لاستحالة التقاء الدين والعلم بأي شكل من الأشكال. والأمر في الحقيقة يقترب مما يدعيه هؤلاء المروجون كثيراً إذا نظرنا إلى النسخة اليهودية- المسيحية المحرفة من الدين، والتي تزعم فيما تزعم أن الله قد نزل على الأرض وتعارك مع يعقوب عليه السلام ، أو تتبنى عقيدة التثليث وغير ذلك مما يصطدم مع التنزيه الفطري الذي فُطر الإنسان على استحضاره حينما يفكر في الذات الإلهية. وأذكر ذات مرة أن البروفيسور ستيفن هو كنغ الفيزيائي الشهير، سئل عقب محاضرة ألقاها عن النظرية المرتقبة والتي يرجى أن تفسر جميع القوانين الكونية المعروفة، سئل: هل في هذا الكون مكان لله؟ فأجاب قائلاً: إن إجابتي ب(لا) تجعلني أُصنّف مع الملحدين المنكرين لوجود الله، وإجابتي (نعم) تجعل السائل يتصور أن فهمي لطبيعة الإله مثل فهمه هو لطبيعته. فالأزمة إذن تكمن في التصور اليهودي- المسيحي عن الدين وعن الذات الإلهية لا في ذاته، ويمكننا أن نقدر الحرج الذي يقع فيه العلماء أو حتى عامة الناس إذا خيروا بين الجحود بوجود الله عز وجل وبين الإيمان به على الطريقة اليهودية- المسيحية المشوهة،وهما بلا شك أمران أحلامهما مر.

إشكالية العلم من المنظور اليهودي- المسيحي:

باعتبار السائد بين العلماء عموماً وهم من يحمل خلفية التصور اليهودي- المسيحي فأن الأسئلة التي طرحت في المؤتمر حول العلاقة بين الدين والعلم هي:

1- هل يمكن للكون الذي يصفه العلم الحديث أن يكون من خلق الله (الأله) في التصور اليهودي- المسيحي.

2- هل يستطيع ذلك الإله أن يؤثر في الكون بقوانينه؟ وكيف؟

3 – هل لازال من الممكن للمسيحية- وبالذات ما يخص زعمائها بحلول الله في شخص عيسى الناصري. ووعدها بالبعث- أن تكون مقبوله في ضوء العلم الحديث؟

انبراى للدفاع عن التصور العقدي اليهودي- المسيحي الفيزيائي الإنجليزي الشهير جون بلوكنغهورن المتخصص John Polkighorne في فيزياء الجسيمات والقس في الكنيسة الإنجليكية مستنداً على ما يسمى بالمبدأ الأنثروبي Anthropic principle والذي وضعه في الأساس فيزيائيا أخران هما فرانك تيبلر Frank Tipler وجون باروJohn Barrow ويتلخص المبدأ في أن الكون قد صمم خصيصاً وفصل لكي يسمح للحياة أن تنشاء "فيه عقول أنصار هذا المبدأ: أن على المرء أن يتخيل جميع القوانين والثوابت الفيزيائية المتصوره والتي كان يمكن أن تكون هي المنظمة لشؤون الكون وعلى سبيل المثال مقدار كتلة البروتون أو قيمة (ثابت بلانك) ومن بين هذا العدد الهائل من الخيارات المحتملة فإن القوانين والثوابت التي تحكم بالفعل هذا الكون هي عملياً الوحيدة التي يمكن أن تسمح للحياة الذكية أن تنشاء فيه إن قانون الجاذبية ينص على أن قوة الجذب بين الأجسام تتناسب عكسياً مع مربع المسافة بينها فلو تخيلنا أن هذه القوة كانت حسب قانون أخر يجعلها أقل مما هي عليه الآن لأدى ذلك إلى تباعد الكواكب في النظام الشمس وأنفلتها من أفلاكها بل لما سمح في الأصل بوجود مثل هذا النظام وكذلك فلو أن قوة الجذب زادت قليلاً عما هي عليه لأنهار النظام الشمس على نفسه بل لما تكون مثله أصلاً وفي كلا الانحرافي عن القانون الحالي للجاذبية فان فرص تكون الحياة على سطح الأرض تنعدم وفي إجابته على السؤال الثاني حول إمكانية تأثير الله وتدخله في شؤون الكون فأن بلوكنغهورن يقول: أن ذلك ممكن عن طريق الاحتمالات التي تتيحها فيزياء الكم وعدم القدرة على التنبؤ التي تمليها نظرية الفوضى المكتشفة حديثاً. أما تفسير العقيدة المسيحية المتمثلة في تثليث ولادة عيسى علية السلام من غير أب وقصة الخلق فأن بلوكنغهورن يقول: إنه يجب أن تحمل كل هذه أمور على المجاز وإلا تؤخذ بشكل حرفي .

ورغم التنازلات الكبيرة التي يقدمها القس بلوكنغهورن فيما يخص عقيدته إلا أن الكثير من علماء العصر لا يوافقونه فيما ذهب إليه محتجين في ذلك بأن هناك فرقاً بين تخيل وجود الأشياء وبين وجودها بالفعل. فليس قولنا إن هذا الكون كان يمكن أن تحكمه قوانين وثوابت مختلفة عما هو عليه في وضعه الراهن يدل على إمكانية وجود صيغة أخرى واقعية للكون غير الصيغة التي هو عليها الآن.

فبإمكانك أن تتخيل وجود "عروس البحر" مثلاً ولكن ذلك لا يجعل وجودها الفعلي أمرا ممكناً.

رؤية دينية أخرى:

وبينما يضع بلوكنغهورن هذه الصيغة المدافعة عن الدين والأقل شعبية في الوسط العلمي فأن كيث وورد Keith ward بروفيسير علم الإلهيات في جامعة أكسفورد ينحى منحى أخر في الدفاع عن قضية وجود خالق لهذا الكون يقول وورد: أن القوانين الفيزيائية المكتشفة لا تبرر في الحقيقة وجود الظواهر الكونية ولكنها فقط تعمل على تفسير عمل هذه الظواهر. إن القانون الفيزيائي المتعلق بالجاذبية مثلاً لا يمكن ان يكون بذاته المسبب لحدوث ظاهرة التجاذب وبطريقة أخرى فيمكننا أن نسأل السؤال التالي: من الذي يجبر الأجرام السماوية على أن تتصرف وفقاً لقانون الجاذبية؟ إنه قطعاً ليس القانون ذاته لأن القانون بصف العلاقة ولا يسببها وترى الكاتبة مارغريت ورثيم أن هذا الاحتجاج أسلم بكثير وأكثر قبولاً في الأوساط العلمية من سابقه الذي يتبناه بلوكنغهورن.

والحقيقة أن هذه الحجة هي من أقوى الحجج على "قيومية" الله عز وجل، وعدم غفلته عن الكون طرفة عين ولا أقل من ذلك، فإن الكون كله محتاج إلى وجوده سبحانه وإلى قيامه عليه وإلا لزال وانتهى، فالقانون لا يحميه من الزوال ولا يجبره على التصرف بالطريقة التي نراه عيها ولكن الكون كما قال عز وجل قائم بأمره هو: (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره) الروم25، ولو تخلى عنه لتلاشى وانتهى من فوره: (إن الله يمسل السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد م بعده) فاطر41، وعلى ذلك فإن تدخل الله عز وجل وتأثيره في الكون ليس محصوراً في احتمالات الكم أو التنبؤات نظرية الفوضى كما يزعم بولكنغهورن، ولكنه ماثل في كل زمان ومكان ومن وراء القوانين والحقائق، يمدها بسبب وجودها، كما يأمر الكائنات أن تسير وفقها. وإذا شاء أن يعطلها فعل، كما أمر النار أن تكون برداً وسلاماً على إبراهيم.

النصرانية والتحريف الجديد:

نلاحظ مما سبق أن "الفيزيائي المسيحي" تخلى عن الإيمان بالكثير من القضايا المذكورة في الكتاب المقدس أو أوّلها تأويلاً مجازياً لا يتفق مع دلالات الكلمات واللغة. ومن ضمن هذه التأويل تأويل المعجزات مثل ولادة عيسى عليه السلام من أم بلا أب ، وهو أمر يمكن عده نوعاً من "المجاملة" العقلية الغربية الحديثة التي ترى الإيمان بهذه الأمور دليلاً على الرجعية والتخلف. وإلا فما المانع العقلي إذا سلمنا بوجود الخالق أن يعطل هذا الخالق عمل هذه القوانين، أو أن يستحدث غيرها إذا شاء، اللهم إلا أن يكون ذلك استرضاءاً للجماهير التي استولت عليهم النظرية المادية المقيتة. إنها ذات الطريقة التي سلكها أهل الكتاب من قبل في تحريفهم الكتاب بحسب أهوائهم وشهواتهم. وكما قيل في السابق حينما اعتنق الإمبراطور الروماني النصرانية وأدخل فيها ما أدخل من تحريف وتبديل "إن العلم لم يتنصر ولكن النصرانية تروَمت"، فإنه يمكن القول الآن أن العلم لم ينتصر ولكن النصرانية "تعلمنت"!!

وكما ختمت الكاتبة مارغريت ورثيم مقالها بالدعوة إلى إشراك التصورات الدينية الأخرى عن الدين، حين نبحث في قضية الالتقاء بينه وبين العلم، فإننا نختم مقالنا هذا بحث العلماء والمتخصصين من المسلمين على التفاعل الإيجابي مع هذه الدعوة وذلك بالتعمق في مجالاتهم العلمية أولاً، ثم بطرح رؤية جديدة حول دور العلم ومكانته ودور الدين ومكانته من المنظور الإسلامي. إن الإسلام هو المرشح الوحيد لرأب الصدع المتنامي بين هذين المصدرين من مصادر المعرفة، لكونه الدين السماوي الوحيد الذي سلم من التشوية والتبديل. ولا عجب أن يزول التناقض حينئذ بين الدين والعلم إذا علم أن مصدر المعرفتين واحد.

Lamaar
جعلها الله بميزان حسناتك
الحمدلله على دين الاسلام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Scroll to Top