تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » صفة النبي في التوراة

صفة النبي في التوراة 2024.

  • بواسطة
بسم الله الرحمن الرحيم

صفة النبي – صلى الله عليه وسلم – في التوراة
الشيخ حسن آيت علجت حفظه الله

روى الإمامُ البخاري – رحمه الله – في «صحيحه» (2125) عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ – رضي الله عنهما -، قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ – صلَّى الله عليه وسلَّم – فِي التَّوْرَاةِ؟ قَالَ: أَجَلْ؛ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَحِرْزًا لِلأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ وَلاَ سَخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ، وَلاَ يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ؛ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ؛ بِأَنْ يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا».لَقَدِ اِشْتَمَلَ هذا الأثَرُ على وَصْفِ النبيِّ محمَّدٍ – صلَّى الله عليه وسلَّم – في التَّوْرَاةِ، ووَصْفِ دعْوَتِهِ القَوِيمَةِ، وأخْلاقِه المُسْتَقِيمَةِ، وشَرِيعَتِه العَظِيمَةِ.

وجاءَ في الإِنْجِيلِ – أيْضًا – قَرِيبًا من هذا، كما في حديث عائشة – رضي الله عنها – أنَّ رسولَ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: «مَكْتُوبٌ في الإِنْجِيلِ: لا فَظٌّ ولا غَلِيظٌ ولاَ سَخَّابٌ بِالأَسْوَاقِ، ولا يَجْزِي بالسَّيِّئَةِ مِثْلَهَا؛ بَلْ يَعْفُو ويَصْفَحُ» (1).

والتَّوراةُ هي الكِتَابُ الذي أنْزَلَهُ اللهُ – عزَّ وجلَّ – على نَبِيِّ الله مُوسَى – عليه السَّلام -، أَحَدِ الأنْبِيَاءِ العِظَامِ مْنْ أُولِي العَزْمِ من الرُّسُل.

وأَحْيَانًا يَكُونُ المقْصُودُ بالتَّوراة أعَمَّ مِنْ ذلك؛ إذْ قال شيخُ الإسلام ابْنُ تيمية – رحمه الله – في «النُّبُوَّات» (ص289): «ويُرَادُ بالتَّوْرَاةِ الكِتَابُ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى، وما بَعْدَهُ مِنْ نُبُوَّةِ الأَنْبِيَاءِ المُتَّبِعِينَ لِكِتَابِ مُوسَى؛ قَدْ يُسَمَّى هذا كُلُّهُ تَوْرَاةً؛ فَإِنَّ التَّورَاةَ تُفَسَّرُ بالشَّرِيعَةِ، فَكُلُّ مَنْ دَانَ بِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ قِيلَ لِنُبُوَّتِهِ: إنَّها مِنَ التَّوْرَاةِ».

ومِنْ خَصَائِصِ التَّوْرَاةِ أنَّهَا الكِتَابُ الذي لَمْ يُنَزَّلْ مِنَ السَّمَاء كِتَابٌ أهْدَى مِنْهُ ومِنَ القُرْآن؛ لهذا قال اللهُ – عزَّ وجلَّ -: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ * قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [القصص:48 – 49].

مِنْ أجْلِ ذلك؛ فإنَّ اللهَ تعالى كَثِيرًا ما يَقْرِنُ بيْنَ التَّورَاة والقُرآن، وذلك في مِثْلِ قولِهِ سبحانه:﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ * وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [الأنعام: 91 -92]، وقوْلِهِ – عزَّ وجلَّ – حِكَايَةً عن مُؤْمِنِي الْجِنِّ:﴿قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الجن:30]، وَقَوْلِهِ – عزَّ وجلَّ -: ﴿وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾ [الأحقاف:12] (2).

قال ابْنُ تيمية – رحمه الله – في «الجواب الصَّحيح» (1/116): «والقُرآنُ أَصْلٌ كَالتَّوْرَاةِ، وإنْ كانَ أعْظَمَ مِنْها؛ ولهذا عُلَماءُ النَّصارى يَقْرِنُون بَيْنَ موسى ومحمَّدٍ – صلَّى الله عليه وسلَّم -، كَمَا قال النجاشيُّ مَلِكُ النَّصَارى لمَّا سَمِعَ القُرآنَ: «إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى، لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ» (3)، وكذلك قَالَ ورَقَةُ بْنُ نَوْفَل – وهو مِنْ أَحْبَارِ نَصَارَى العَرَبِ – لمَّا سَمِعَ كَلامَ النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم -، فقال له: إنَّه يأتِيكَ النَّامُوسُ (4) الذي يَأْتِي مُوسَى، يا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فقال النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟!» قَالَ: نَعَمْ؛ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ؛ إِلاَّ عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ؛ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا (5)» اهـ.

وسَبَبُ اقْتِرَانِ التَّورَاةِ بالقُرآن هو أنَّهُمَا الكِتَابَان اللَّذَان اخْتَصَّا بِتَفْصِيلِ الأحْكَامِ، وذِكْرِ الحَلالِ والحَرَامِ.

وقَدْ جَاءَ في هذه التَّورَاةِ ذِكْرُ البِشَارَةِ بالنَّبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم -، كَمَا قَال الله – عزَّ وجلَّ -: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ﴾[الأعراف: 157]، بَلْ ذُكِرَ فِيهَا حتَّى أصْحَابُ نَبيِّنا – صلَّى الله عليه وسلَّم – عليهم من الله الرِّضوان، فقد قال سبحانه: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾ [الفتح: 29].

وجَاءَ في هذا الخَبَرِ الصَّحِيح – أيْضًا – ذِكْرُ طَرَفٍ مِنْ أوْصَاف النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – الوَارِدَةِ في التَّوْرَاة، وهو من رواية عَبْدِ الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – الإِمَامِ الحَبْرِ، العَابِدِ، صَاحِبِ رَسُوْلِ اللهِ – صلَّى الله عليه وسلَّم – وَابْنِ صَاحِبِهِ، ومِنَ الأُمُور التي وَرَدَتْ في تَرْجَمَتِه مِمَّا له تَعَلُّقٌ بِرِوايَتِه لهذا الأثَرِ، ما ذَكَرَهُ الإمامُ الذَّهبي – رحمه الله – في «سِيَرِ أَعْلاَمِ النُّبَلاءِ» (81/ 3) مِنْ أَنَّهُ رَوَى عَنْ أَهْلِ الكِتَابِ، وَأَدْمَنَ النَّظَرَ فِي كُتُبِهِم، وَاعْتَنَى بِذَلِكَ.

وأَوَّلُ هذه الأوْصَاف المَذْكُورَةِ في هذا الأَثَرِ هي: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾.

وهذا الوصْفُ وَرَدَ في مَوْضِعَيْن مِنَ القرآن الكريم:

أوَّلُهُما: في قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ [الأحزاب:45 -46].

والثَّاني: في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ [الفتح:8 -9].

«وهذه الأشْيَاءُ الَّتِي وَصَفَ اللهُ بها رسُولَه محمَّدًا – صلَّى الله عليه وسلَّم – هي المقْصُود من رِسالَتِه، وزُبْدَتُها وأُصُولُها الَّتِي اخْتَصَّ بها:

الوصْفُ الأوَّلُ: ﴿كوْنُه شَاهِدًا﴾، وهذه الشهادة تَتَضَمَّنُ ثلاثَةَ أُمُورٍ:

أوَّلاً: الشَّهَادَةُ لأُمَته – صلَّى الله عليه وسلَّم – بما فَعَلُوه مِنْ خَيْرٍ وشَرٍّ، كما قال تعالى:﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143]، وقال: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا﴾ [النساء:41]؛ فهو – صلَّى الله عليه وسلَّم – شَاهِدٌ عَدْلٌ مقْبُولٌ.

ثانيًا: الشَّهَادَةُ على المَقَالاَتِ والمَسَائِلِ حَقِّها وبَاطِلِها، فَمَا شهِدَ له الرَّسُولُ – صلَّى الله عليه وسلَّم – مِنَ الأَفْعَالِ والأقْوَال بِمَا ثَبَتَ في سنَّته؛ فهو حَقٌّ، وما سِوَاه فهو بَاطِلٌ مَرْدُودٌ، كما جاء في «الصَّحيحين» عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ – صلَّى الله عليه وسلَّم -:«مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ».

ثالثًا: الشَّهادَةُ لله – جَلَّ وعلا – بالوَحْدَانيَّةِ، والاِنْفِرَادِ بالكَمَال مِنْ كُلِّ وجْهٍ.

الوَصْفُ الثَّاني والثَّالث: كَوْنهُ – صلَّى الله عليه وسلَّم – مبشِّرًا ونذيرًا، ويوَضِّحُ هذا قَوْلُه تعالى: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾ [مريم:97].

وهذا يسْتَلْزِمُ ذِكْرَ المُبَشَّرِ والمُنْذَرِ، وما يُبَشَّرُ بِهِ ويُنْذَرُ، والأعْمَالَ المُوجِبَةَ لذلك.

فالمُبَشَّرُ هُمُ المؤمنون المُتَّقُون، الذين جَمَعُوا بين الإيمان والعَمَلِ الصَّالِحِ، وترْكِ المعاصي؛ لهم البُشْرَى في الحَيَاةِ الدُّنْيَا بِكُلِّ ثَوَابٍ دُنْيَوِيٍّ ودِينِيٍّ رُتِّبَ على الإيمان والتَّقْوَى، وفي الأُخْرَى بالنَّعِيم المُقِيم.

وذلك كُلُّه يَسْتَلْزِمُ ذِكْرَ تَفْصِيلِ المَذْكُور مِنْ تَفَاصِيلِ الأَعْمَالِ، وخِصَالِ التَّقْوَى، وأنْوَاعِ الثَّوَاب.

والْمُنْذَرُ هم المُجْرِمُون الظَّالمُون، أهْلُ الظُّلْمِ والجَهْلِ؛ لهم النَّذَارَةُ في الدُّنيا من العُقُوبات الدُّنيوية والدِّينيَّة المُتَرَتِّبَة على الجَهْلِ والظُّلْمِ، وفي الأُخْرَى بالعِقَاب الوَبِيلِ، والعَذَابِ الطَّويلِ.

وهذه الجُمْلَةُ تفْصِيلُها، ما جَاءَ بِهِ – صلَّى الله عليه وسلَّم – مِن الكِتَابِ والسُّنَّة المشْتَمِلِ على ذلك» (6).

ومِنَ الشَّمَائِلِ النَّبويَّة الوَارِدَةِ في التَّوراة: كوْنُه – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «حِرْزًا لِلأُمِّيِّينَ»؛ أيْ: حِصْنًا للأُمَيِّين، وهم الذين لا كتاب لهم من العرب وغيرهم.

ومِنْ هذا قَوْلُهُ تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة:2].

ومعنى كَوْنِه حِصْنًا، أيْ: حافِظًا لهُم مِنْ كُلِّ سُوءٍ وشرٍّ دُنْيَويٍّ وأُخْرَوِيٍّ، ومِصْداقُ ذلك قوْلُه – عز وجل -: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:128].

وهكذا الأنبياء – عليهم السلام -، ومَنْ سَارَ على نَهْجِهِم من الدُّعاة إلى الله – عزَّ وجلَّ -؛ فإنَّهم يتحاشَوْن تَعْريضَ أتْبَاعِهِم لأيِّ مَكْروهٍ، ويُجَنِّبونَهُم كُلَّ بَلاءٍ ما اسْتَطَاعوا إلى ذلك سَبِيلاً، خِلاَفًا لِبَعْضِ مَنْ خَالَفَ مَنهجَ الأَنْبِيَاءِ في الدَّعْوَةِ إلى الله – عزَّ وجلَّ -، وتَنَكَّبَ جادَّتَهُم؛ فَإنَّه لا يَرْعَوِي أَنْ يُعَرِّضَ بَلَدًا كَامِلاً للدَّمار والخَرَاب مِنْ أجْلِ الحِفاظ على شَخْصِهِ، ويَوَدُّ لَوْ يَفْتَدِي بِأْتَبَاعِهِ مِن كُلِّ بَلاءٍ يَنْزِلُ بِهِ!

ومن أوْصَافِ النَّبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – المذْكُورَةِ في التَّوْرَاةِ كوْنُه عبْدًا رَسُولاً، وذلك في قَوْلِه: «أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي».

وهذه العُبُوديَّةُ المَذْكُورَةُ هنا، هي عُبُوديَّةٌ اخْتِيَاريَّةٌ خَاصَّةٌ بأنْبِيَائِه وأوْلِيَائِهِ – سبحانه -، وهي تَقْتَضِي التَّشْرِيفَ والتَّكْرِيمَ، وبإِزَائِها العُبُودِيَّةُ العَامَّةُ الاِضْطِرَارِيَّةُ الشَّامِلَةُ لِجَمِيعِ الخَلْقِ، وتَقْتَضِي الهَيْمَنَةَ والقَهْرَ(7).

وقد ذَكَرَ اللهُ – عزَّ وجلَّ – نَبِيَّهُ محمَّدًا – صلَّى الله عليه وسلَّم – – وهو أكْرَمُ الخَلْقِ عليه، وأحَبُّهم إلَيْهِ – بالعُبُوديَّة في أشْرَفِ مَقَامَاتِه وأفْضَلِ أحْوَالِه؛ وذلك في مَقَامِ الدُّعَاءِ، ومَقَامِ التَّحَدِّي بأنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذا القُرْآنِ، ومَقَامِ الإسْرَاءِ، ومَقَامِ إنْزَالِ القُرآن، ومَقَامِ الإِيحَاءِ:

ففي مَقَامِ الدُّعَاءِ قال سبحانه: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾[الجن:19].

وفي مَقَامِ التَّحَدِّي قال – عزَّ وجلَّ -: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة:23].

وفي مقام الإسْرَاءِ قال سبحانه: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء:1].

وفي مقام إنْزَال القرآن قال – عزَّ وجلَّ -: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان:1]، وقال أيْضًا: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾ [الكهف:1].

وفي مَقَامِ الإِيحَاءِ قال سبحانه: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ [النجم:10](8).

وقد خُيِّرَ نبيُّنا – صلَّى الله عليه وسلَّم – بيْن أنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولا، أو نَبِيَّا مَلِكًا؛ فاخْتَارَ أنْ يكونَ عَبْدًا رسُولاً، كما جاء ذلك في حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ: جَلَسَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم -، فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: إِنَّ هَذَا مَلَكٌ مَا نَزَلَ مُنْذُ خُلِقَ قَبْلَ السَّاعَةِ! فَلَمَّا نَزَلَ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ؛ أَمَلَكًا أَجْعَلُكَ، أَمْ عَبْدًا رَسُولاً؟ قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: «بَلْ عَبْدًا رَسُولاً» (9).

وفي هذا جاء الحديثُ الذي رواه الإمامُ البخاري في «صحيحه» (3445) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما -، أنَّه سَمِعَ عُمَرَ – رضي الله عنه – يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – يَقُولُ: «لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ؛ فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ».

وفي قوله: «أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي» ردٌّ على طَائِفَتَيْن مُنْحَرِفَتَيْن عَنْ سَوَاءِ السَّبِيل:

الأولى: مُفْرِطَةٌ غَالِيَةٌ، رفَعَتْهُ – صلَّى الله عليه وسلَّم – فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ، فجَعَلَتْهُ فَوْقَ مَرتَبَةِ العُبُوديَّة، بَلْ في مَرْتَبَةِ الرُّبُوبية والأُلُوهيَّة، حتَّى صَارَ عِنْدَهَا إِلَهًا، ورَبًّا تُطْلَبُ منه الحَوَائِجُ.

الثانية: مُفَرِّطَةٌ مُقَصِّرَةٌ، لَمْ تَعْرِفْ مَنْزِلَةَ النَّبِيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – ولا قَدْرَهُ ولا حُقُوقَه؛ فَلَمْ ترْفَعْ بهَدْيِهِ رأْسًا، بَلْ نبَذَتْ ما جاءَ بِهِ وراءَ ظَهْرِهَا، واعْتَمَدَتْ على الآراء المحْدَثَةِ، واتَّبَعَتِ الأهواءَ المُضِلَّةَ.

فوَصْفُهُ بالعُبُوديَّة رَدٌّ على الغُلاةِ، ووَصْفُهُ بالرِّسَالَةِ ردٌّ على الجُفاةِ.

ومِنْ أوْصَافِ النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – المَذْكُورَةِ في التَّوراةِ كوْنُه مُتَوَكِّلاً على الله تعالى، بل صَارَ هذا الوصْفُ اسْمًا له، وعَلَمًا عليه؛ لِشِدَّة اقْتِرَانِه به، ولُزومِ النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – لهذه العِبَادَة العَظِيمَة، كما جاء في هذا الأثَر: «سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ».

والتَّوكُّلُ لُغَةً هو التَّفْويضُ والاِعْتِمَادُ، أمَّا شَرْعًا فقد قال الحافظُ ابنُ رَجَبٍ – رحمه الله – في «جامِعِ العُلُوم والحِكَمِ» (356/ 2 – ط: دار الخير): «وحقيقةُ التوكُّلِ هو: صِدْقُ اعْتِمَادِ القَلْبِ علَى اللهِ – عز وجل – في اِسْتِجْلاب المَنَافِعِ، ودَفْعِ المَضَارِّ مِنْ أُمُور الدُّنْيَا والآخرة كُلِّهَا ووكِّلت الأمور كلُّها إليه، وتَحْقِيقُ الإيمَانِ بِأَنَّه لا يُعْطِي ولا يَمْنَعُ ولا يَضُرُّ ولا يَنْفَعُ سِوَاهُ» اهـ.

وقَدِ امْتَثَلَ رَسُولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – أمْرَ ربِّهِ – عزَّ وجلَّ – بالتَّوكُّل عليه؛ إذْ أَمَرَهُ بذلك في مَوَاضِعَ عِدَّةٍ من القُرآن الكريم، وذلك في مِثْلِ قوْلِه – عزَّ وجلَّ -: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران:159]، وقوْلِه تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ﴾ [الفرقان: 58]، وقولِه – عزَّ وجلَّ -: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾ [النمل:79]، وقولِه – عزَّ وجلَّ -: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً﴾[الأحزاب:3].

ومن الشَّمائل النَّبَويَّة المذْكُورة في هذا الأثرَ كَوْنُه – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ».

فَبَعْدَ ذِكْرِ حُسْنِ مُعامَلَته مع الحقِّ – تبارك وتعالى – بتَوَكُّلِه عليه، جاءَ ذِكْرُ حُسْنِ معامَلَتِه مع الخَلْقِ، وكَمالِ أخْلاقِه في عِشْرَتِهِم وخِلْطَتِهِم.

والفَظَاظَةُ والغِلْظةُ مُتَقَارِبَتَان في المعْنَى، وهُمَا ضِدُّ اللِّين والرِّفْقِ اللَّذَيْن كانا خُلُقَ النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – كما قال – عزَّ وجلَّ -: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159].

وهذا اللِّينُ يَنْجُمُ عنه حُسْنُ مُعَاشَرَةِ النَّاس، والانْبِساطُ إلَيْهِم والتبَسُّمُ في وجُوهِهِم، وهكذا كان خُلُقُ النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم -؛ ففي «الصَّحيحيْن» عَنْ جَرِيرِ بْن عبد الله البَجَليِّ قَالَ: «مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلاَ رَآنِي إِلاَّ تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي»؛ ولهذا تَرْجَمَ الإمامُ البخاريُّ في «الأدب المفرد» (ص 95) لهذا الأثَرِ الَّذي فيه صِفَةُ النَّبِيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – في التَّوْرَاةِ بقوله: «بابُ الانْبِسَاطِ إلى النَّاسِ».

وبَعْدَ أنْ وَرَدَ في هذا الأثَرِ ذِكْرُ اسْتِقَامَةِ جَوَارِحِ النبِيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – المُبَارَكَةِ، جَاءَ ذِكْرُ اسْتِقَامَةِ لِسَانِه الشَّريف، وذلك بِوَصْفِه: «وَلاَ سَخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ».

والسَّخَبُ – ويُقالُ أيضا: الصَّخَبُ – هو رَفْعُ الصَّوْتِ بالخِصَامِ كَحَالِ مَنْ لا حِلْمَ له وَلاَ وَقَارَ، وخُصَّتِ الأسْواقُ بالذِّكْرِ لِكَثْرَةِ ما يَجْرِي فيها مِنَ الصَّخَبِ واللَّغَطِ؛ ولهذا تَرْجَمَ الإمامُ البخاريُّ لِهَذَا الأثَرِ في «صحيحه» بقوْله: «بَابُ كَرَاهِيَةِ السَّخَبِ فِي السُّوقِ».

ومِنَ الأخْلاَقِ النَّبَويَّةِ المذْكُورَةِ في هذا الأثرَ كوْنُه – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «لاَ يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ؛ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ».

والنَّبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – في هذا مُتَخَلِّقٌ بأخْلاَقِ القُرْآن؛ إذْ قال اللهُ – عزَّ وجلَّ – مخاطِبًا نَبِيَّهُ – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾ [المؤمنون:96]، وقال – عزَّ وجلَّ -: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت:34]، وقال – عزَّ وجلَّ -: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة:13]، وقال سبحانه: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ [آل عمران: 159].

ثُمَّ جاء في وَصْفِه – صلَّى الله عليه وسلَّم – في التَّوراة: «وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ».

أي: لَنْ يُمِيتَ اللهُ – عزَّ وجلَّ – هذا النبيَّ الكريمَ – صلَّى الله عليه وسلَّم – حتَّى يُقيمَ به المِلَّة العَوْجَاء، وفُسِّرَتْ بتفسيرَيْن:

الأوَّل: ما ذَكَرَهُ القَاضِي عِيَاض – رحمه الله – في «مشارق الأنْوَار» (2/104) حيث قال: «يعني مِلَّةَ إبْرَاهيمَ – مِلَّةَ الإسْلاَمِ – التِي غَيَّرَتْهَا الجاهليَّةُ عَنْ اِسْتِقَامَتِهَا، وأماَلَتْهَا بَعْدَ قَوَامِهَا» اهـ.

وَوَجْهُ ذلك أنَّ الحَنِيفِيَّةَ الَّتي هي مِلَّةُ إبراهيمَ – عليه السَّلام -، مَأْخُوذةٌ مِنَ الحَنَفِ وهو المَيْلُ؛ لأنَّها مَالَتْ عن جميعِ طُرُقِ الضَّلال إلى الطَّرِيقِ الذي رَضِيَهُ اللهُ – عزَّ وجلَّ -، فَقِيلَ لَهَا: «المِلَّةُ العَوْجَاءُ»؛ لأنَّ فيها مَيْلاً واعْوِجَاجًا عن طريق الشِّرْكِ إلى طريق التوحيد، وعن أهْلِ الشِّرْكِ إلى أهْلِ التَّوحيد(10).

الثَّاني: ما ذكَرَهُ ابْنُ بطال في «شرح صحيح البخاري» (6/ 254)، حَيْثُ قال: «الْمِلَّةُ الْعَوْجَاءُ: المُعْوَجَّةُ، وهِيَ مِلَّةُ الكُفْرِ؛ فَأَقَامَ اللهُ بِنَبِيِّهِ عِوَجَ الكُفْرِ حَتَّى ظَهَرَ دِينُ الإِسْلاَمِ، وَوَضَحَتْ أَعْلاَمُهُ» اهـ.

وفي هذا الصَّدَدِ قال الإمامُ ابنُ القيِّم – رحمه الله – في «الصَّوَاعِقِ المُرْسَلَةِ» (1/ 148 – 149) وَاصِفًا حَالَ النَّاسِ قَبْلَ البِعْثَةِ: «وكَانَتِ الأُمَمُ – إِذْ ذَاكَ – ما بَيْنَ مُشْرِكٍ بِالرَّحْمَن؛ عَابِدٍ لِلأَوْثَان، وعَابِدٍ للنِّيرَاِن، وعَابِدٍ للصُّلْبَانِ أوْ عَابِدٍ للشَّمْسِ والقَمَرِ والنُّجُومِ، كَافِرٍ باللهِ الحَيِّ القَيُّوم، أوْ تَائِهٍ في بَيْدَاءِ ضَلاَلَتِهِ حَيْرَان، قَدِ اِسْتَهْوَاهُ الشَّيْطَان، وَسَدَّ عَلَيْهِ طَرِيقَ الهُدَى والإِيمَان» اهـ.

ثُمَّ جاء في هذا الأَثَرِ: «بِأَنْ يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ».

وهذه الكَلِمَةُ الطيِّبَةُ – كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ – هي الَّتِي بَعَثَ اللهُ – عزَّ وجلَّ – بها رَسُولَهُ مُحَمَّدًا – صلَّى الله عليه وسلَّم -، وهي أصْلُ دِينِ الإسْلامِ الذي أنْزَلَ اللهُ بِهِ كُتبَهُ، وأرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ.

وبها ابْتَدَأَ النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – دعوَتَهُ؛ فعَنْ طَارِقٍ الْمُحَارِبِيِّ – رضي الله عنه – قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – في سُوقِ ذِي الْمَجَازِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ، وَهُوَ يَقُولُ: «يَا أَيُهَّا النَّاسُ، قُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؛ تُفْلِحُوا … » الحديث(11).

فتبيَّنَ من هذا أنَّ حقيقَةَ دَعْوَةِ النَّبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – وأُسَّهَا الذي قامَتْ عليه هو تَقْرِيرُ التَّوحيد، وتَحْقِيقُ مَعْنَى «لا إلَهَ إلاَّ اللهُ»، وذلك امْتِثَالاً لأمْرِ الله – عزَّ وجلَّ – نَبِيَّهُ – صلَّى الله عليه وسلَّم -، ومِنْ وَرَائِهِ أُمَّتَهُ بقوْلِه: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ﴾ [المدثر: 19].

ثُمَّ جاءَ بَعْدَ ذلك وَصْفُ دَعْوَةِ النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – في التَّوْرَاة بأنَّه: «يَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا».

قال المُلاَّ عَلِي القاري في «مرقاة المفاتيح» (16/ 420): ««وَقُلُوبًا غُلْفًا» بِضَمِّ أَوَّلِهِ: جَمْعُ أغْلَفُ، وهو الَّذِي لا يَفْهَمُ، كَأَنَّ قَلْبَهُ في غِلاَفٍ.

وإنَّما ذَكَرَ هذه الأَعْضَاءَ؛ لأنَّهَا آلاَتٌ لِلْعُلُومِ والمَعَارِفِ، قال تعالى في حَقِّ الكُفَّارِ: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ [البقرة: 7]، وقال: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 171]، ولَعَلَّه لَمْ يَذْكُرِ اللِّسَانَ في مَعْرِضِ هذا البَيَان؛ لأنَّه تَرْجُمَانُ الجَنَان، والإِنَاءُ يَتَرَشَّحُ بِمَا فِيهِ مِنَ الأَعْيَان» اهـ.

وفي هذه الجملة – كما قال الإمام ابن القيم – في «هِدَايَة الحَيَارَى» (ص 76): «إِشَارَةٌ إلى تَكْمِيلِ مَرَاتِبِ العِلْمِ والهُدَى الحَاصِلِ بِدَعْوَتِهِ في القُلُوبِ والأَبْصَارِ والأَسْمَاعِ، فَبَايَنُوا بِذَلِكَ أَحْوَالَ الصُّمِّ البُكْمِ العُمْيِ الَّذِينَ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَعْقِلُونَ بِهَا، فَإِنَّ الهُدَى يَصِلُ إلى العَبْدِ مِنْ هَذِهِ الأَبْوَابِ الثَّلاَثَةِ، وهِيَ مُغْلَقَةٌ عَنْ كُلِّ أحَدٍ، لا تُفْتَحُ إلاَّ على أيْدِي الرُّسُل، ففَتَحَ الله بِمُحَمَّدٍ – صلَّى الله عليه وسلَّم – الأعْيُنَ العُمْيَ فَأَبْصَرَتْ بِالله، والآذَانَ الصُّمَّ فَسَمِعَتْ عَنِ الله، والقُلُوبَ الغُلْفَ فَعَقِلَتْ عَنِ الله؛ فانْقَادَتْ لِطَاعَتِهِ عَقْلاً وقَوْلاً وعَمَلاً، وسَلَكَتْ سُبُلَ مَرْضَاتِهِ ذُلُلاً» اهـ.

ومِنْ فَرَائِدِ الفَوَائِد، ما ذَكَرَهُ شَيْخُ الإسلام ابْنُ تيمية – رحمه الله – من الفُرُوق بين الأنْبِيَاءِ – عليهم السَّلام – والسَّحَرَةِ، وتَأْثيِر ِكُلِّ مِنْ هَؤُلاءِ وهَؤُلاءِ على القُلُوبِ والأَبْصَارِ والأَسْمَاعِ، فقال في «النبوَّات» (ص 289 – 290): «فالسَّاحِرُ يُفْسِدُ الإِدْرَاكَ، حتَّى يَسْمَعَ الإنْسَانُ الشَّيْءَ، ويَرَاهُ، ويَتَصَوَّرَهُ خِلاَفَ ما هو عليه، والأنْبِيَاءُ يُصَحِّحُون سَمْعَ الإنْسانِ وبَصَرَهُ وعَقْلَهُ، والَّذين خَالَفُوهُمْ ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة:171]؛ فالسَّحَرَةُ يَزِيدُون النَّاسَ عَمًى وصَمَمًا وبَكَمًا، والأَنْبِيَاءُ يَرْفَعُونَ عَمَاهُمْ وصَمَمَهُمْ وبَكَمَهُم».

إلى أَنْ قَالَ – رحمه الله -: «والمقْصُودُ هُنَا أنَّ الأنْبِيَاءَ يَفْتَحُون الأعْيُنَ العُمْيَ، والآذان الصُّمَّ، والقُلُوبَ الغُلْفَ، والسَّحَرَةُ يُفْسِدُون السَّمْعَ والبَصَرَ والعَقْلَ حتَّى يُخَيَّلَ للإنْسَانِ الأشْيَاءُ بِخِلاَفِ ما هي عَلَيْهِ؛ فَيَتَغَيَّرَ حِسُّهُ وعَقْلُهُ، قال في قِصَّةِ موسى: ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ [التوبة:116]؛ وهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أعْيُنَ النَّاسِ قَدْ حَصَلَ فِيها تَغَيُّرٌ؛ ولِهَذَا قال تعالى: ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾ [الحجر:14-15]؛ فَقَدْ عَلِمُوا أنَّ السِّحْرَ يغيِّرُ الإحْسَاسَ، كَمَا يُوجِبُ المَرَضَ والقَتْلَ» اهـ.

وآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِين.


(1) حسن: رواه الحاكم وابن عساكر، انظر: «الصحيحة» (2458).

(2) انظر: «مجموع فتاوى ابن تيمية» (16/ 202).

(3) أثَرٌ صَحِيحُ الإسناد: رواه أحمد (1740) عن أُمِّ سلمة – رضي الله عنها -، انظر: تخريج أحاديث «فقه السيرة» (ص 115).

(4) أيْ: صَاحِبُ السِّرِّ، وهو جِبْرِيلُ الأمينُ – عليه السلام -. «نهاية».

(5) رواه البخاري (4)، ومسلم (160) عن عائشة – رضي الله عنها – بلفْظٍ مُقَارِبٍ.

(6) عن «تفسير السعدي» (ص 614 وص 736ـ ط: مؤسسة الرسالة) بتصَرُّف وزيادات يسيرة.

(7) انظر لبيان ذلك «فتاوى ابن تيمية» (1/ 43 – 44)، و «القول المفيد» للشيخ ابن عثيمين (1/ 33 – ط: ابن الجوزي).

(8) انظر: «فتاوى ابن تيمية» (10/ 152)، و «الجواب الكافي» لابن القيم (ص 132).

(9) صحيح: رواه أحمد، وابن حبان، انظر: «الصحيحة» (1002).

(10) هذا الكلامُ مُسْتَفَادٌ مِنْ شَرِيطٍ مَسْمُوعٍ لمعالي الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، فيه شَرْحُ كِتَابِ «فَضْل الإسلام».

(11) صحيح: رواه ابن حبان، انظر: «صحيح موارد الظمآن» (1401).

* منقول من (مجلة «الإصلاح» – العدد 20)

اللهم صلى وسلم على خير خلقك
سيدنا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين٠
عليه الصلاة و السلام
بارك الله فيك على الموضوع القيم والمميز

وفي إنتظار جديدك الأروع والمميز

لك مني أجمل التحيات

وكل التوفيق لك يا رب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.