نعكاس المعايير شرح لحديث«إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ . 2024.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ "، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ يا رسول الله؟ قَالَ: " السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ»[رواه أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه].
إن تصديق الكاذب وتكذيب الصادق، لن يكون عن عمد؛ كما قد يتبادر إلى الأذهان. وإن ائتمان الخائن وتخوين الأمين، لن يكون باختيار الخيانة على الأمانة في صورتهما البسيطة؛ وإنما يحدث ذلك بانعكاس المعايير. وانعكاس المعايير، يكون نتيجة لتراكم الانحرافات على مدى قرون من الزمن. تبدأ باتباع الهوى فيما يعود إلى الفرد، وتتطور بشيوعه في الجماعة، وحلوله محل الشرع والعقل. وبارتباط الهوى بالغايات الدنيوية، تصير المعايير (القيم) غير تلك التي كانت من قبل. وبانعكاس المعايير، نصل إلى تصديق الكاذب وتكذيب الصادق؛ ونصل إلى ائتمان الخائن وتخوين الأمين.
والأمر لا ينحصر فيما ذُكر من الصفات، بل يتعداه إلى كل منظومة القيم التي تضبط العلاقات الاجتماعية؛ التي هي بدورها، أساس من أسس التدين الفردي والجماعي معا. وإذا وصل الأمر إلى هذا الحد، فلك أن تتصور بعض ما يمكن حدوثه من انحدار نحو البهيمية والشيطنة. ونتيجة لهذا الانحدار الناتج عن انعكاس المعايير، سيصعد إلى أعلى مراتب الوجاهة سفهاء القوم وشرارهم، وسينزل إلى أسافلها خيارهم وحكماؤهم؛ لذلك سينطق الرويبضة.
نطق الرويبضة، تنظير للجماعة (التي قد تكون دولة) بما تعطيه السفاهة من سطحية وعجلة؛ وهو رسم لسياسات في مختلف المجالات، تعطي الهزائم المتنوعة والخيبات المتتالية. نطق الرويبضة، ترشح للانتخابات في شتى المستويات، تنتهي بالكوارث فيها؛ فلا يمكن تدارك ما تلف، ولا تصحيح ما سلف.
نطق الرويبضة تجاوز لثوابت الأمة، وربط لها بالسياسات العالمية المـُعادية؛ فتكفي بذلك أعداءها مؤنة مواجهتها. وحتى الحروب التي ستعرفها، فإنها لن تكون لها النّدّيّة فيها، بل تكون في محل المفعول به، المنصوب للتأديب والتعزير. فإنا لله وإنا إليه راجعون!
وصَف الحديث الشريف هذه المرحلة من عمر الأمة، بالسنين الخداعة؛ كأننا سنعيش تحت حكم الوهم المحرف للإدراك. وكأن الأمة (في عمومها) ستكون تحت تأثير مخدرات مختلفة، ليست المخدرات الحسيّة المعروفة إلا أحد فروعها. عند انحراف الإدراك، قد تظهر القوة ضعفا والضعف قوة؛ وقد يصير العلم جهلا والجهل علما؛ وفي النهاية يصير المنكر معروفا والمعروف منكرا. هذه هي مرحلة المسخ، التي يفقد الناس معها آدميتهم، وإن بقيت لهم منها الصورة.
هذه المرحلة، قدر من الأقدار التي شاء الله للأمة أن تعيشها؛ وما قدّره الله، لا راد له. وكلامنا، هو للطائفة التي يحفظها الله مما ذكرنا؛ وبها يحفظ لهذه الأمة خميرة دينها، حتى إذا جاء أوان العودة إلى الجادة، وجدت ما تعود به. وهذا، مما يسمى بلغة العصر "فقه الواقع"، بما له وما عليه؛ حتى يسهل تصحيح المسار إذا أذن الله.

الشيخ عبد الغنبي العمري

بارك الله فيك
وجزاك الله خيرا