تبلغ نتائج الأحداث والتطورات التي شهدتها سوريا في الأشهر الأربعة عشر الماضية حدود الكارثة، حيث إن النظرة الأولى تتضمن مقتل ما يزيد على اثني عشر ألفا من أبنائها، يضاف إليهم نحو سبعين ألف مفقود في الأحداث، قسم من هؤلاء هم في عداد القتلى خاصة ممن لم ترشح أي معلومات عنهم منذ بدء الأحداث. وثمة أعداد تقدر بعشرات آلاف الجرحى، أصيبوا في الأحداث، وتحول كثير منهم إلى معاقين. وحسب تقديرات حقوقية، فإن مئات آلاف السوريين دخلوا السجون والمعتقلات، أو هم مطلوبون للأجهزة الأمنية، وهناك مئات آلاف السوريين غادروا إلى خارج البلاد، رغم أن المسجلين بصفتهم لاجئين في دول الجوار لا يتعدى عددهم عشرات الألوف، أكثرهم في الأردن جار سوريا في الجنوب.
وثمة مؤشرات أخرى لما وصلت إليه الحالة السورية من تدهور، منها أن عدد السوريين النازحين عن بيوتهم في المدن والقرى داخل سوريا يقدر بنحو مليوني نسمة، وأن عدد السوريين ممن يحتاجون مساعدات إنسانية عاجلة، تتضمن الغذاء والدواء واللباس والإيواء، يصل إلى مليون شخص، فيما يبلغ عدد أصحاب الحاجة الملحة منهم نصف مليون نسمة، القسم الرئيسي من هؤلاء في منطقة وسط وجنوب البلاد، التي تشكل مناطق كثافة السكان وتمركز قسم رئيسي من الإنتاج السوري المادي.
والمؤشرات السابقة بما تركته من آثار مباشرة على السوريين تمثل جزءا من مؤشرات أخرى، بينها ما أصاب الاقتصاد، وهي لا تقل في آثارها المدمرة عن سابقتها، وبعض ما أصاب الاقتصاد السوري بقطاعاته المختلفة يمكن ملاحظة مؤشراته في قطاع السياحة مثلا، حيث انخفض نشاط هذا القطاع إلى ما دون النصف، وفقد نحو نصف مليون شخص من العاملين في هذا القطاع فرص عملهم، وانخفض عدد السياح الوافدين إلى النصف، وبالتأكيد انخفضت عائدات السياحة، وتوقفت كثير من مشاريعها. وفي الصناعة لم يكن الأمر أفضل حالا، إذ واجهت الشركات والمؤسسات الصناعية تحديات الخسارة والإفلاس إما بالتوقف الكلي أو بخفض العاملين والإنتاج، وسط تحديات ارتفاع أسعار المواد الأولية والمكملة أو نقصها، ونقص السيولة النقدية. وتعرضت الزراعة إلى خسائر كبيرة هي الأخرى، خاصة أن مجريات العمليات العسكرية والأمنية تركزت في أهم المناطق الزراعية من درعا إلى ريف دمشق وحمص وحماه وإدلب، وهي مناطق رئيسية في الإنتاج الزراعي والحيواني، وأدت العمليات ليس إلى خراب المواسم فقط، وإنما إلى تعطيل وتهجير أعداد كبيرة من سكان هذه المناطق بما جعلهم خارج إطار الإنتاج.
لقد أضافت الظروف الجديدة أبعادا جديدة إلى المشاكل البنيوية الاقتصادية والاجتماعية، التي تعاني منها سوريا والسوريون، والتي كانت بين أسباب ثورة السوريين، والأبرز في تلك المشاكل تجسده البطالة التي تصل إلى حدود ثلث العاملين، والفقر الذي يطحن نحو نصف السكان، والغلاء الذي بلغ مستوى أغلبية السكان، وتردي الأوضاع المعيشية لأغلب الفئات الشعبية بما فيها الطبقة الوسطى، وكلها أضافت أبعادا جديدة لتدهور الأوضاع، مما جعل الأمور تتجه أكثر فأكثر باتجاه كارثة سكانية واقتصادية، لها تداعيات اجتماعية خطيرة.
غير أنه وعلى الرغم مما تمثله المعطيات السابقة من مؤشرات خطيرة، تصل إلى حدود الكارثة، فقد يكون الأهم من المعطيات السابقة هو ما تؤشر له وقائع الانسداد في أفق المعالجة السياسية للوضع القائم في البلاد. ذلك أن السلطات السورية، وعبر الفترة الماضية من عمر الأزمة، مصرة على متابعة الحل الأمني – العسكري، وهذا لا يترتب عليه فقط تصعيد أرقام الخسائر البشرية والاقتصادية وتداعياتهما، بل بما يمكن أن ينجم عن استمرار هذه السياسة من نتائج بين احتمالاتها دخول البلاد في حرب داخلية شاملة سواء كانت حربا بين النظام ومعارضيه، أو – ربما – حربا بين مكونات في الجماعة الوطنية لها طابع عرقي أو ديني – طائفي، أو تعرض البلاد إلى حرب دولية سواء جاءت تحت قرارات مجلس الأمن الدولي والبند السابع، أو من خارج القرارات الدولية، وأي من ذلك إذا حصل فسوف يلحق الضرر الكبير بسوريا والسوريين، وقد تقود مثل تلك التطورات إلى تبدل في صورة سوريا الحالية بتقسيمها أو إلحاق أجزاء منها بكيانات أخرى في المنطقة.
خلاصة الأمر أن ثمة حدين في الكارثة السورية، أحدهما يتصل بما يصيب السكان والاقتصاد والمجتمع من أضرار مباشرة وغير مباشرة نتيجة إصرار السلطات على متابعة الحل الأمني – العسكري للأزمة في البلاد، وهذا أمر يمكن الخروج منه في المستقبل بجهود السوريين ورغبتهم في معالجة أزماتهم ومشاكلهم، والحد الآخر من الكارثة يمثله غياب أي رؤية سياسية لدى السلطات السورية في معالجة الأزمة، وهذا إذا استمر فلن يكون بإمكان أحد معالجة نتائجه، لأنه سوف يدمر سوريا والسوريين في آن معا، وسيضعهم – معا – في كارثة نهائية لا مخرج منها.
فايز سارة
عن "الشرق الأوسط " اللندنيّة
29 نيسان 2024