لقد أعلن جورج بوش الصغيرGeorge W. Bush أن العالم بات مقسوما بين الخير والشر وبين المؤمنين والكفار، والمؤمنون هم أولئك الذين يرتضون القيم الامريكية للرأسمالية الانكلو ـ ساكسونية برمتها أما الكفار فهم الذين يرفضونها، ويجب علي الأمم الآن أن تقرر ما إذا كانت مع هذه القيم أو ضدها، وعليها كذلك أن تقرر إن كانت مع الحرب الامريكية علي الكافرين بهذه القيم. وهنا تصبح الدول التي لا تقبل بالقيم الامريكية والغربية دولا شريرة بشّرها بوش بعذاب أليم. ولقد أعلن بوش أن الحرب ستكون طويلة ضد الإرهاب دون أن يحدد مفهومه للإرهاب أبداً، أو أنه كان يحدده بين الفينة والاخري بما يتفق ومصالح وأهواء البارونات الرأسماليين العبرقطريين. فيا لها من حرب غريبة لا مثيل ولا سابق لها! لقد بدأت الحرب الامريكية الجديدة ضد حركة طالبان في أفغانستان وضد أسامة بن لادن. وقبل أن يصبح جـــورج بوش George Bushرئيــــساً سأله أحد مراســلي مجلة غلامور Glamor في ايار (مايو) 2000 حول مدي معرفته بالشؤون الخارجية، وكان السؤال عما إذا كان بوش يعرف ما هي طالبان، حيث أجاب بوش بأن هذا الاسم قد طرق مسامعه من قبل وأنه يعتقد أنه اسم فرقة روك أند رول امريكية. وعندما طلب منه المراسل أن يذكر له أسماء عشرة قادة دول، لم يستطع أن يذكر سوي اسم واحد فقط.
لقد كانت القوي التي أوصلت بوش هذا إلي سدة الحكم ليدير أجندتها الخاصة بنظام عالمي إمبريالي جديد علي علم تام بما تريد. ولقد علّق أحد القادة البارزين من الحزب الديمقراطي يوم تولي الرئيس بيل كلينتون Bill Clinton الرئاسة للولاية الاولي قائلاً: تتغير الوجوه في البيت الأبيض أما القابضون علي مقاليد السلطة وراء الكواليس فهم أنفسهم لا يتغيرون .
لقد تمخض هذا المزيج المخيف من قوة المال وقوة الإعلام وقوة التسويق سواء للأشخاص أم للأفكار عن قدرة هائلة علي غسل الأدمغة لا تقدم للعالم سوي رؤية واحدة فقط لا غير، وهي رؤية قوي الظل التي تسيطر علي العالم عبر واشنطن. لقد قامت قوي الظل هذه بفرض إعادة تشكيل الاقتصادات الإنتاجية للدول ليتوافق مع مخططاتها للهيمنة الاقتصادية وتمت تسمية هذه التغيرات، ظلماً، بأنها إصلاح Reform)، وما هي في حقيقتها سوي إعادة تشكيل Re-forming للاقتصادات بطريقة تمكنهم من السيطرة عليها. ولقد اعتمدوا لذلك وسائل الصدق والكذب سويّاً للوصول إلي هذه الأهداف.
لقد ابتدع صامويل هنتنغتون Samuel Huntington إلي جانب كثيرين آخرين من شاكلته، معظمهم جاءوا من رحم قوي الظل العالمية، رسالة يشرح فيها التبرير الأخلاقي للحرب التي من أجلها أوصلوا جورج دبليو بوش George W. Bushإلي البيت الأبيض. وتروج الرسالة إلي وجوب اعتناق القيم الامريكية والغربية واعتبارها قيما عالمية. ويدّعي الموقعون علي تلك الرسالة أن من قاموا بهجمات الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) إنما كانوا يهاجمون تلك القيم. كما أنهم أقرّوا أن هناك نوعين من الإسلام: الإسلام الجيد (أو كما يسميه بعض المسلمين الآن الإسلام الامريكي من باب السخرية) والإسلام السييء. ويجب أن يكون الإسلام الجيد علي شاكلة الإسلام الذي أقامه كمال أتاتورك في تركيا، كما قال نائب وزير الدفاع الامريكي. لقد أعلنوا أن العالم أصبح قرية واحدة وأن عملية العولمة المستمرة لا بد وأن تحمل في ثناياها مجموعة واحدة من المباديء العالمية، وقرروا نيابة عن العالم بأن هذه المفاهيم والقيم يجب أن تكون المباديء الغربية. ولكننا نعترض هنا علي هذا الإدعاء برمته! قليلون هم الامريكيون الذين يتذكرون الحركة الشعبية وحزب الشعب الذين سادوا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. ولقد تمخضت تلك الحركة عن مفاهــــيم عظيمة تحترم الإنسان وإنسانيته وتـُسخّر مفاهيم العدل الاجتماعي وضرورة خدمة الدولة للمجتمع كله بدلاً من تسخير الدولة والمجتمع كله لخدمة بارونات المال في وول ستريت وأتباعهم؛ فقد كانوا يسعون إلي امريكا مختلفة، امريكا من نوع آخر، وطريقة جديدة في النظر إلي الأشياء.
لقد أرادوا أن يغيروا الرأسمالية السائدة آنذاك، وسعوا إلي إصلاحات جذرية للنظام الاقتصادي الامريكي. وبذلك فإن مفاهيم تلك الحركة الشعبية الإصلاحية Populists كانت تقاسم الإسلام كثيراً من قيم الصالح العام التي يتضمنها الإسلام في رؤيته للاقتصاد والمجتمع. وأفضل ما يوضح لنا أوجه الشبه والقواسم المشتركة بين النظرة الشعبية الامريكية تلك وبين الإسلام ومفهومه للنظام الاقتصادي هو الدراسة التي أجرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD حول الإسلام وكيفية اختلافه عن الرأسمالية والاشتراكية.
تقول الدراسة: تختلف المفاهيم الإسلامية عن الرأسمالية من خلال معارضتها لكنز الثروات بشكل غاية في الإفراط … وإن المجتمع الإسلامي ليس بأي حال من الأحوال حلبة تتصارع فيها المصالح المتضاربة ولكنه مكان تسوده العلاقات المنسجمة والمتجانسة ليتسني تحقيقها من خلال حس بالمشاركة في تحمل المسؤوليات. وينبغي لحقوق الأفراد أن تكون متوازنة بشكل متوازن مع حقوق المجتمع.
إننا علي يقين تام من أن القيم الامريكية الرأسمالية الحالية قد خلطت الحابل بالنابل، وربطت بين الحياة الحسنة والاستهلاك بحيث أصبحا شيئاً واحداً. ولقد قال الرئيس الامريكي الأسبق جيمي كارترJimmy Carter مؤخراً: في دولة كانت تتباهي بالعمل الدؤوب والعائلات المترابطة والمجتمعات المتينة في بنيانها وإيمانها، أصبحت اليوم تميل إلي عبادة الانغماس الذاتي والاستهلاك. ولم يعد تعريف الهوية الإنسانية بما يفعله الإنسان، بل بما يملكه. ولذلك اكتشفنا أن امتلاك الأشياء واستهلاكها لا يشبع حاجتنا إلي الأمور المعنوية والروحية، وقد تعلمنا أن تكديس السلع المادية لا يكفي لملء الفراغ الذي يكتنف الحياة عندما لا يكون فيها إيمان أو غرض.
ولا يسفر هذا النموذج من الرأسمالية ذات القيم المادية عن شيء إلاّ الجريمة والجريمة المنظمة وما شاكلهما. وقد أوردت شركة الإذاعة الوطنيةNBC عام 1997 في تقرير لها عن مدينة لوس أنجيلوس ما يفيد أن أغلبية ال 150 ألفا من أعضاء العصابات المسلحة من المراهقين. ويلقي حوالي 9000 شخص سنويا حتفهم علي أيدي تلك العصابات منهم 25 في المئة من المارّة الأبرياء.
وفي ثقافة المادة والنمو الاقتصادي والرغبات المباحة، يغذي هؤلاء المراهقون بالثقافة التي تشجعهم علي العنف وتحرضهم علي الجريمة لأنها تجارة مربحة، فالمال في النظام الانكلوـ ساكسوني الرأسمالي هو المقياس النهائي للنجاح.
وتســـتمد مــــــارلين مانسون Marlyn Mansonصاحبة الألبوم اسمها من المغني الرئيسي فيها الذي يتكون اسمه من مقطعين هما مارلين و مانسون ، حيث المقطع الأول يشير إلي مارلين مونرو Marlyn Monroe التي أنهت حياتها بالانتحار، بينما يشير الثاني إلي تشارلز مانسون Charles Manson السفاح الذي عرف بارتكاب جرائم جماعية. وتقوم كلمات الأغاني في الألبوم علي الجريمة والانتحار واليأس، كما أن كثيراً منها لا يمكن طباعته .
إن القتل من أجل المال يقع ضمن قِيَم النظام الذي تطالب الولايات المتحــــدة العالم بتبنيه. ففي نظام الرأسمالية المعلوماتية infofinancialism يعتبر المال المقياس النهائي للنجاح. ولم تفعل واشنطن الكثير لكبح جماح صناعة التبغ طيلة 33 سنة – وذلك بعد أن أقرّ كبار الأطباء في وزارة الصحة الامريكية، منتصف الستينات من القرن الماضي، بوجود دليلٍ كافٍ ودامغ لدعم الافتراضات القائلة بأن التدخين قاتل ومسبب للإدمان. (مجلة تايم TIME)، 30 حزيران (يونيو 1997)، قالت: إن الامريكيين يخسرون ما مجموعه 4 ملايين سنة تراكمية سنوياً من حياتهم في وقت مبكر، مما يمثل أسوأ فضيحة صحية امريكية باتت مقبولة بشكل روتيني. ومن السخرية أن إنكار رؤساء شركات التبغ والسجائر الحقائق الدامغة بأن التدخين يؤدي إلي الإدمان والموت علماً بأن كمية ضخمة من الوثائق الداخلية الحاسمة التي كشف النقاب عنها خلال العقد الماضي أثبتت عكس ذلك . ويدفع حوالي 400 ألف مواطن امريكي حياتهم سنوياً ثمناً للتدخين. وخلال السنوات الثلاثين التي قدم فيها كبار الأطباء في وزارة الصحة الامريكية البينات المقنعة علي الخواص القاتلة لصناعة التبغ، قضي حوالي 14 مليون امريكي نحبهم موتاً أو قتلاً من الدخان.
من سوء الحظ أن الرأسمالية الانكلو ـ سكسونية لا تزدهر إلاّ في ظل الحروب التي تمثل بدورها فرصاً سانحةً للبارونات اللصوص الأثرياء، بينما تمثل بالنسبة لبقية شعوب العالم الموت والدمار.
لقد أفرزت الحضارة الغربية وقيمها أكثر الحروب ضراوة في التاريخ. فقد أودت الحرب العالمية الثانية لوحدها بحياة 50 مليون شخص. إن أخلاقيات هذه الحضارة الغربية العنصرية قامت بإلقاء قنبلتين نوويتين علي المواطنين في مدينتين يابانيتين في وقت كان واضحاً فيه أن الاستسلام الياباني وشيك.
إن قيم هذا النظام أوجدت تبايناً صارخاً في الثروات حيث يهيمن واحد في المئة فقط من الشعب الامريكي علي ثروات تزيد أضعاف المرات علي ما يمتلكه ثمانون في المئة من الشعب مجتمعين. ويمتلك بيل غيتس Bill Gatesمن الثروة ما يعادل ثروة مدينة امريكـــية تعـــداد سكانهــــا نصـــف مليون نســـمة. ومع ذلك، فقــــد صنّف المكتب الامريــكي العام للإحصاء U.S Bureau of Statistics في مطلع القرن الواحد والعشرين حوالي 40 مليون امريكي كفقراء كثير منهم مشردون دون مأوي. وفي كل مدينة امريكية كبيرة توجد أحياء فيها فقر مدقع، وبذلك توجد عوالم ثالثة في امريكا نفسها. وقد وصف روبرت إي دافولي Robert E. Davoli المدير التنفيذي لإحدي الشركات الامريكية العملاقة، النظام الامريكي بقوله: إن الرأسمالية هي انحراف وتضليل. لدينا أعلي معدلات الجريمة في العالم، ولدينا أناس يعيشون علي قارعة الطريق دون أن يلقي أحد لهم بالاً .
إن الرأسمالية والمصالح متعددة الجنسيات أفرزت طبقة الواحد بالمئة One Percent Cla في كل الدول القطرية وترابطت مصالح البارونات العبر قطرية مع البارونات العالميين وتشابكت معا، وتتقدم تلك المصالح علي المصالح الوطنية. لقد أصبح البارونات القطريون في بلدانهم أقل حجماً فصاروا حراساً لمصالح البارونات الكبار اللصوص العبر قطريين، بينما تم التخلي عن سيادة الدول القومية ليحل محلها نظام الدول القطرية العميلة التي تدار لحساب البارونات العبرقطريين.
إن أصحاب النظام العالمي الجديد هم البارونات اللصوص العبر قطريون وعرّابو وول ستريت ، لقد صادروا القيم الامريكية الأصــــيلة وحولوا الحلم الامريكي إلي كابوس، ورفعوا من شأن الرأسمالية المعلوماليّة لترقي إلي مستوي عقيدة ذات قيم ومباديء تناصب قيم كافة العقائد الأخري وأخلاقياتها العداء، فليس هناك تعارض جوهري بين اليهودية والمسيحية والإسلام. إن الصراع الحقيقي يقوم بين مادية الرأسمالية المعلوماتيّة التي تجردت قيمها من الأخلاقيات كافة، والمثل الدينية.
يقـــول ليستر سي ثوروLester C. Thurowأستاذ علم الاقتصــــــاد والعميــــــد الســـــابـــق لكليــــــة ســــــلون سكــــــول للإدارة Sloan School of Management في جامعة MIT الشهيرة، في كتابه مستقبل الرأسمالية Future of Capitalism : لسوء الحظ، فإن كلا من الرأسمالية والديمقراطية لا تمثل بأي حال من الأحوال آيديولوجية مشتركة، فهما لا تقدمان أهدافاً مشتركة تؤدي إلي الوصول إلي ما يعمل الجميع من أجله، فهما تؤكدان علي قيمة الفرد، لا الجماعة. وفي تعبير صارخ وفظ لما تشمل عليه أخلاقيات ومـُثل الرأسمالية، فإن الجريمة لا تعدو كونها نشاطاً اقتصادياً آخر .
لقد اشتملت كل الأديان السماوية علي وصايا بنبذ الربا باعتباره إثماً وخطيئة كما نص سفر التكوين الذي تضرب جذوره في القدم. كما أن الإسلام حرم الربا وكنز الذهب والنقود لأي سبب كان عدا تشغيله واستخدامه وسيلة للإنتاج. وبذلك، فإن الإسلام يبارك الاقتصاد القديم الذي يعتبر منتجاً، الذي يتعارض تعارضاً مباشراً مع الاقتصاد الجديد الرأسمالي المعلومالي الطفيلي والمضارب. وهذا الأمر تحديداً هو ما يقضّ مضاجع البارونات اللصوص في كل الأقطار. وتأتي هذه القيمة الإسلامية علي النقيض تماماً مع قيم البارونات. وهذا ما يلخصه جون مينارد كينزJohn Myanard Keynes الاقتصادي البريطاني الشهــــير في القرن العشـرين، والذي لعـــب دوراً فـــي وضـــع وصـــياغة اتفاقية بريتون وودز Breon Woods المالية فيمـــــــا بعـــد الحــــرب العالميـــة الثانية، في كـــتابه المشــــهور: النظرية العامة للتـــوظيف والمصلحـــة والمال The General Theory of Employment, Interest and Money
حيث يقول: لا بد لنا أن نتخذ الجشع وكنز المال والربا والاحتراس أربابا لنا … فهم فقط دون سواهم الذين سيقودوننا إلي النور .
لقد صرح اقتصاديو القرن العشرين رسمياً وعلي رؤوس الأشهاد أن المال، بل وحتي الربا، ليسا خطيئة واعتداء علي الله، بل هما الله نفســـه بالنســـبة لهم! وحـــتي بعد أن تعرضت هذه العقيـــدة الكينزية للهجــــوم، فإن أرباب أصولية السوق Market Fundamentalism قد استلموا الراية من بعده وابتدأوا من حيث انتهي كينز. ففي عام 1980 ومع بداية عهد إلغاء القيود التشريعية، أقر الكونغرس مشروع إلغاء القيود عن الربا وشرّعه إلي جانب تشريعات وقيود أخري كثيرة قام بإلغائها. ونتيجة لذلك، فقد تم إلغاء السقف الأعلي الذي كانت الحكومات المحلية وحكومات الولايات قد حددته لرهن العقارات. وبات الربا، إلي جانب الجنس، من المسائل الشخصية التي لا ينبغي للحكومة التدخل فيها طالما أن أصحاب العلاقة هم أشخاص بالغون ولا إشكال أو اعتراض لديهم.