قالت لي: أحمل نفسك إلى البيت في إجازة، لأن الأيام القادمة ستكون صعبة، وتنبئ بحرب وشيكة. أجواؤها مشحونة بالبارود.
وهكذا حصلت على إجازة من قائد الكتيبة لعدة أيام. خلعت بذلتي العسكرية. خلعتها عن جسم، كجلد ثور جاف. قلبي يرفرف بجناحيه كطائر أُصيب بطلقة صياد.. لا أعرف من أين يأتي النزيف. أحياناً يدقّ باب الفرح، ومرات تجترع نفسي أنّات حزينة، ضباباً داخلياً مشحوناً.
عدت من إجازتي. بدأت أحزاني تتغلب على آمالي، عندما أقبلت صباحاً على باب الكتيبة، المفتوح للأرض والسماء. حركات غريبة تجاه قسم المهمات. مجندون يشكلون حلقات. تتصاعد قهقهات. ومجندون خرجوا متفرقين توّاً من مهاجعهم المتناثرة، يحملون أكياساً محشوة، وصرراً مربوطة، ممتلئة بالثياب والبذلات العسكرية، وبطانيات مستلقية براحة فوق الأكتاف. أحذية مربوطة بقوة. رؤوس تتحرك بين الدروب الترابية والصخرية. تتوزع في كل الاتجاهات أكواماً من الحجارة السود، وعلى الطريق المرصوفة، الواصلة بين ساحة الاجتماع الصباحي، ومقرّ القيادة، تظهر الفصائل متناثرة على جانبي الطريق، وأرتال من الجنود يسيرون على نحو غير منظّم.
وقفت فوق تلّة، ترتفع قليلاً خلف غرفتي. أبحرت ببصري في الجهات الأربع. رأسي يدور كأنه رشاش مثبّت على قاعدة متحركة. رافقتني في تلك اللحظات صور حَملْتها من المدينة التي تضجّ بالسيارات والباعة والجنود والمرضى والحرارة المرتفعة. هنا في هذا السهل، الهواء الجاف، تدفعه غيوم بيض، تنبض رطوبة وندى. رنَّ جرس الهاتف. بدأ يعزف موسيقا خشنة، مزعجة.
هل تصدق الحاسة السادسة؟هل ما أتوقعه سيحمله هذا الهاتف المفاجئ؟. لا.. لا شيء جديد! لقد تعودت دون أوقات محددة على رنين الهاتف، لكوني في قيادة الكتيبة. بدأت الاحتمالات تتوارد، والهاتف يستمر في رنينه، ويصطدم في جدران البلوكوس الأسمنتي.
أسرعتُ هابطاً من فوق التلّة.. ألو.. ألومين. ردّ المساعد أبو هشام : "وينْ أنت ياأخي. ساعة وأنا أعيّط عليك"
مالأمر يا أبا هشام! ماذا تريد في هذا الصباح الندي؟ لم يحن موعد الاجتماع الصباحي!
ذهبتْ الاجتماعات الصباحية يارقيب محمود دون رجعة. الوقت كان قصيراً، وأعشاش من الزنابير تئزّ فوق رأس المساعد وحول مكتبه الجنود وصف الضباط ينتظرون أدوارهم.
قال : أسرع حاملاً معك ثيابك العسكرية كي أبدّلها لك.
دخل رئيس القلم الرقيب الأول محمد. استقبلته بعينين واجمتين وسؤال:
ما الخبر؟
أجاب: الأمور طبيعية. هل من أوامر جديدة؟
كان محمد يخفي عني شيئاً. لايريد أن يعكر عليّ صباحي، وإنما استكمل جوابه بكلمة " الحمد لله على سلامتك". صحيح الإجازة قصيرة لكنها مفيدة. فيها راحة وسمر بين الزوجة والأولاد.
كان محمد فرحاً لقدومي، لأنه منذ فترة ينتظر دوره في الذهاب إلى مدينة حمص، وربما سيحصل على يوم زيادة عني.
دائماً كان يتحدث عن ابنه الوحيد. ينقل إليَّ حركاته، وكلماته المتقطعة… الآن أصبحت الإجازة في جيبه.
أسمع ضجيج الآلة الكاتبة. تتقاطع رنّات حروفها مع نبضات قلبي. الشمس ترتفع، وتنهض فوق كتف السماء، وقطرات الندى تمتصها الحرارة. تنحدر قطرات العرق منزلقة فوق جلد وجهي. حروف الآلة الكاتبة تنهض، وأخرى تلتوي بين أصابع أبي بسام " الرنكوسي".
تباشير فيها لحظة وداع، تحتضنها تجاعيد وجه "الرنكوسي"، لكنه لا يريد البوح بها. عِشْرة سنة ونصف لا يريد أن يطويها في دقيقة. هو ليس مسؤولاً عن ذلك. مجند حريص على حفظ الأسرار العسكرية.كأننا في لحظات الوداع، هكذا نطقت الحاسة السادسة. .. لا يا محمود! لم أصدّق أن أمراً إدارياً مازال في بطن الآلة. "ينقل الرقيب محمود من الكتيبة رقم. .. إلى الكتيبة رقم.. التابعة للواء. . ويأتي بدلاً عنه الرقيب عصام، دون أسباب مدوّنة في الأمر الإداري".
سبب النقل يحتفظ به قائد الكتيبة وحده، ومن حقّه، ولكن السؤال:
لماذا النقل يا ترى؟
في الوقت الذي تتحفز الكتيبة إلى جنوبي لبنان "صيدا" وتستعد لصد العدوان الصهيوني! ظلّ السؤال يؤرقني لماذا الأمر بنقلي. . أنا الرقيب محمود ؟!! وبقي يرافقني، وأنا في طريقي إلى مساعد المهمات، أحمل أمتعتي. أنتظر مع الجنود المجتمعين أمام غرفة المهمات. وضعت الكيس فوق كومة من الحجارة. جلست فوقه. مسحت العرق التموزي عن وجهي. أشعلت السيجارة العاشرة. حدقت مطّولاً أتأمل. تأكدت من الخبر، من خلال الكلمات المتقطعة بين فواصل ضحكات الجنود.. إلى صيدا. .. إلى جنوبي لبنان.. الناقورة. .. فلسطين. . العدو.. الأسلاك المكهربة.. الكيبوتسات!!..
تداخلت الأمور في ذهني، بل اختلطت! الأمر الإداري للرقيب محمود فقط، ماذا عن البقية؟
لم يحضر الجواب على الفور، لكنني تنبهتُ إلى أمر آخر، حَضَرتْ تفاصيله في لحظة غضب.. تذكرت "أنهم " طلبوا من الذاتية معلومات البطاقة الشخصية. . الأسم. الكنية. . تاريخ الولادة. . رقم المسكن.
أدرت وجهي باتجاه جندي يحمل الصمت والهدوء في بريق عينيه.
تذكرت اسمه من كثرة إجازاته المرضيّة، ونقاهاته الطبيّة. كاد أن ينهي خدمته الإلزامية. وهو يقيس الطرقات بين السهل والمدينة وبين الكتيبة والمشفى العسكري، معلول، يشكو من أمعائه.لايستطيع أن يأكل كما يشاء. يعيش على اللبن الحلو، والبطاطا المسلوقة. طال شرودي، وأنا أتمعّن في وجهه الأصفر، كالشوك اليابس.
تتداعى أفكاري. اقترب من معرفة أسمه، وكنيته "رياض شحادة"..
ارتحت قليلاً حينما سألته عن موعد الانطلاق إلى صيدا. تيقنت من الخبر، وبدأت أهذي هذياناً مشوباً بالغربة. احتقرت نفسي..
الوجع يعود إليّ وبصماتهم تلاحقني!.
ماذا يارياض بعد؟. . ألم تسمع بقوات الردع! أصبحنا من قوات الردع، وهذه الحواجز المنصوبة في أرض الكتيبة يتدرب عليها الجنود. . الرياضة صباحية، ومسائية. . القفز من فوق السطوح.. تدريبات مكثفة على القتال القريب.
البارحة كُسرت ساق بشار، عندما قفز من علو أربعة أمتار، وشُرطت يد آخر حينما كان يشدّ الحبل، وغيرهم يتلقون العلاج في مشفى المزّة العسكري. لقد سّماها بعضهم "مجزرة شد الحبل"..أرهقتنا التمارين السويدية، والجري، وسباق الضاحية، ولكن أجسامنا أصبحت تتألق، وأكثر أناقة. قطع حديثنا أبو هشام، عندما صرخ، ورفع يده " خلصوني منكما، لم يبق غيركما. هيّا أسرعا"
الوداع صعب يا أبا هشام. قلبي الذي كان يقفز على حدود الكتيبة، وفوق صخورها البازلتية، من الصعب أن يعود إلى مكانه.
الخبز والملح والسفر الطويل والعذابات الحلوة.. هل تذكر عندما تركنا دير الزور، وانطلقنا من أرض "المالحة " على طريق تدمر؟
يومان يا أبا هشام حتى وصلنا "إركيس" جنوب غربي دمشق. كيف أنسى هذه الفترة؟ من ينسى ذلك، يشبه نبتة تميد مترنحة في أرض رخوة! أرضنا صلبة يا أبا هشام، والخندق الذي يجمعنا، يقف خلفه شعب يسند ظهرنا، وسنداننا يتصلب من شدة الطرق عليه.. فلماذا اليوم تطرقون رأسي؟ وقعّ يا أبا هشام على دفتري. أصبحتُ بريء الذمّة الآن. . أمهر خاتمك وتوقيعك هنا.
في طريق عودتي إلى قيادة الكتيبة شربت آخر كأس من الشاي صنعته يد "الرنكوسي"..
ودعتهم مع قبلات ودموع. . إلى اللقاء. . إلى اللقاء!!…
-2-
الأيام تتسارع، وتمضي الشهور. سنتان أو ثلاث ستمضي. العمر همزة وصل مكسورة. سطور ملونة، كسهول بلادي، مجعّدة كتلالها.
يكاد الدم ينفر من وجهي. لم أنظر خلفي، حينما ودعت أصدقائي. . بصري يمتد. يسوح في الربوع الواسعة. يقطع الخنادق الأمامية. أفكاري كالسواح تنتقل بين المناطق الأثرية. حملي ثقيل. في بطن كيس البحارة أحلام ووطن وربوع، ومياه آسنة، وهواء أكسدته الحروب، وفوارغ طلقات. في السلم يفتشون عني، في البيوت، وبين جدران الجامعة. يوقعون مع قسم اليمين أنهم شاهدوا ضوء بيتي، باليوم والتاريخ. وفي الحروب يحمّلونني كيسي وأمتعتي وحذائي.
قلبي جزء من هذا التراب. وصلة من هذه الطرق الطويلة. قسمة من السهول الممتدة حتى مشارف التلال. . أينما ذهبت سأغرد مع أحلامي، سأضرب أوتاد خيمتي فوق أية تلّة أو جبل، أو بجانب الوادي… الأحلام تتطاير من رأسي كعصافير الشتاء.
الحاسة السادسة بدأت تتكلّس. لم تَعُد صادقة. أصبحت تعكس الأمور. تكذب علّي. تحوّل الكذب الأبيض إلى كذب أسود. اصبح الذي يعمل يُعاقب. مكروهاً، انعزالياً ذليلاً، حقيراً، مثل كلب شارد يصطاد الذباب من قلّة الحيوانات النافعة.. أنا ذبابة أو حيوان نافق.. أَمُنافق الذي يصرخ في وجه الريح! أمتحايل الذي يفتح ذراعيه للعواصف! جبان مَنْ يسرق قوتي! مَنْ تعوّد على حبّ الناس تسمو نفسه. " لا تعود نفسك يا محمود على كرُه الناس، إكْراه الأمر القسري. إلعن التوقيع على أمر نقلك الرابع".
قلت هذه العبارات لنفسي.. ثقبت أمعائي كي تخرج آلامي الداخلية لوّنت بؤبؤي عينيّ، بلون السماء والأرض. كالعسل على قلبي أن تفتح الأودية بطونها للراقصين حُبّاً في خنادق المواجهة، التي تعكس خوذاتهم شمس الوطن. وتمتلئ قلوبهم من ألحان السنونو الهاربة من برد الشتاء.
أنهيت تداعياتي عندما قفز إلى محطة ذكرياتي شريط طويل من الصور. بدأت أتطلع إلى محطتي الجديدة.. إلى كتيبتي الرابضة خلف الوادي، تحتضن أرض الجولان. تطلّ عليها التلال والجبال.
ارتقت نفسي مع هذه القمم. انبسطت روحي. تزهو، والهواء القادم من التلال يمسح بأصابعه وجهي، يُضفي على جسدي ثوباً قاتم اللون، يحمل بقع الدماء الجافة.
قعقعت في دواخلي طلقات خلبيّة، ملونة، وتحوّل ضباب الشتاء القاسي إلى مطر.
مطر يغسل جسدي الذي أوهنته متعاعب الطريق، وتبلل حملي الثقيل. أصبح كثوب معصور.
-3-
بيروت تئنّ مجروحة. رقصت فوق مسرحها عشرات التنظيمات المسلّحة.
دوختها القذائف. لوّنت بحرها آلاف الطلقات، وآلاف المذبوحين والمدعوسين ليلاً ونهاراً.
جفّ نهر بيروت من كثرة الذبائح والولائم، ونحن نستمع إلى نشرات الأخبار، تعزّينا أحياناً الجمل الإخبارية من إذاعة " مونتي كارلو" تجذبنا في أحيان أخرى تصريحات القادة العرب.
بدأت الأحاديث والمناقشات تضيع في متاهات. أصبحت القرارت المكتوبة والشفوية تترافق مع الموت بالجملة.
سمعتُ في إحدى نشرات الأخبار الصباحية. " إن قوات الردع في جنوبي لبنان تعرّضت لقصف إسرائيلي.. وردّت قواتنا على العدو وأحدثت خسائر مادية في صفوفه".
بينما كنت متوجهاً إلى كتيبتي الجديدة، أحمل محفظة فيها أدوات الحلاقة، وغيارات داخلية، ومنشفة، وزوج جوارب احتياط، وراديو صغير. أكدّت إحدى المحطات الأجنبية صحة الخبر.
تتدحرج إلى مخيلتي صور أبي هشام، ومحمد، والرنكوسي، وغيرهم. ثم وقفتْ أمامي صور أخرى. . توابيت ملفوفة بعلم بلادي، وتوابيت ممتلئه بمواد مهرّبة..سيارات محطمة، وخنادق تضجّ بالجنود، ونهر " الأوّلي" يقطع المسافة من مرجعيون، يصل إلى البحر المتوسط، شاهد ٌ صادق على ماجرى، ومايجري. يغتسل فيه الجنود ويتركون عرق أجسادهم المالحة..
قطعت مسافة طويلة فوق طريق أسفلتي. الشمس تقذف حرارتها فوق رأسي. يضحك النسيم من الجهة الغربية، يجفف قطرات العرق الواقفة على أطراف حاجبّي. كلما اقتربت تفتش عيناي بين الحفر، والتراب المرتفع خلف الخنادق. لا وجود لبشر. لم ألمح الجنود الرّصاد، ولا المناظير، كانت التلال تقترب مني، وأنا اقترب منها، وتبقى المسافة طويلة.
ياإلهي ما أقرب الأفق الذي يشكل ستارة وراء الجبال.. بعيدة التلال. أمشي يا محمود. تنعّم بهذه التربة الذهبية، والأعشاب المتيبّسة جوانبها.
وصلت إلى "رسم خميس". الصيف في نهايته، وأيلول يحبل بالأمطار. وجوه الجنود ليست غريبة عني، مثل وجه الرنكوسي، ومحمد، وأبي هشام، آخر سلّمني بطانيات، ووسادة، وسرير صدئ وضَعْته في فم الخيمة، أسندته بالأحجار، وجعلت منها صينية للطعام. أتكئ عليها. أفتش في ثقوبها. أنكش الأتربة المتجمدة فيها. وتنبسط أمامي مناظر متباينة. . لا وجود للأشجار. قرية متناثرة البيوت، ورُعاة يسيرون خلف مواشيهم. أجراس تصدح، ونعاج تجتر. أنفاس العشب المهضوم، ورائحة البول، تنقلها الرياح كلما هبّت علينا.
ساعات الغروب في هذا اليوم تمرّبطيئة. المناوبة في آخرها، وسيحدث التبديل بعد شهر.
خلال هذا الشهر أصبحت أعرف كل عناصر السرّية، لكنني كنت أتحاشى قائدها…قرأت في ملامح وجهه قساوة الطبيعة. في صرامة أوامره المكروهة، خشونة وجفافاً. لا يحترم أحداً. حليق الرأس، يهتم بعضلاته وحمل الأثقال. يقضي اليوم يفتش عن الحجل والأفاعي. ومن خلال رحلة الصيد اليومية، يتفقد السرايا والفصائل. عندما تعرّف إليّ مساء، قال:
أترى تلك النقطة؟. توجد هناك جماعة، وقائد هذه الجماعة في إجازة.. مهمتك الآن، المبيت هناك، خلف النهر.
لم أتمكن من تسليم الأمر الإداري إلى قيادة الكتيبة. أمر جديد، ومهمة جديدة. ألا يحترمون الضيوف!!…
حصلت على بعض الإرشادات، منها : انتبه! الأرض ملغومة! أمامك نهر.. أسرع قبل أن يحلّ الظلام.
مشيت باتجاه النقطة، أتنقل بين الألغام. أقفز بحذر. أقطع الحقول المسوّرة بالحجارة المكوّرة. الشمس توزّع آخر حزمها الضوئية على مياه النهر. يمتد ظلّ التلال. استطعت بعد محاولات، ومعاناة، وحوارات، أن أجد بعض الحجارة التي ساعدتني للوصول إلى ضفة النهر الآخرى.
اختفت الشمس وراء الجبال، ولم يبقَ سوى بقعة حمراء تلامس حدود الليل.
صعدت، وأنا ألهث. ثيابي تعصر ماء. وبصري يتقدم نحو الأمام. أبحث عن مكان الجماعة
تتلاشى موجات التعب. . أخذ قلبي موقعه الصحيح، حينما اقتربتُ من حارس النقطة العسكرية.. أوقفني.. مَنْ أنت كلمة السرّ.
لم تنفع الابتسامة في مثل هذه الحالات. أصرّ الحارس على معرفة كلمة السرّ، وعندها قلت له " تفاحة" أشار بالأمان، ورّحب بالضيف الجديد.
نشرت ملابسي. ارتديت بذلة عمل من أحد الجنود. انتظرنا البطاطا المطبوخة مع البندورة. أكلنا، وشربنا الشاي.
كان الليل بعد العشاء يلفّ الأرض والسماء. يجثو بثقلة ورعبه فوق التلال المجاورة، وبين فترة وأخرى تظهر الأنوار الكاشفة، وأصوات جنازير الدبابات، وأنين السيارات والبلدوزرات، وقذائف مدفعية، كأنها تُعلن بداية حرب. . لم تتوقف طوال الليل !.
غسل الصباح تعب الليلة الفائتة. تسابقتُ مع زخات الأمطار الخريفية، متجهاً إلى خيمتي. لمحت قائد السرّية بلباس الصيد.. بارودة تستلقي فوق كتفه. يغطي رأسه الحليق بطاقية ذات رفٍّ ممدود للأمام.
استلقيت على سريري أبحث عن أسرار الأيام القادمة. مللتُ من اليوم الأول.. أكل ونوم ولعب ورق وشرب شاي.. أحاديث فارغة، وهواء نقي جاف، يختلف عن هواء المدينة الملوث. هدوءَ ونوم عميق. كسل مكروه. ابتسامات، وقهقهات يصدرها بعضهم، ملوثة كمياه بردى.
أفكار تدور في رؤوس فارغة دون معنى. تخرج تعليقات، وأحياناً أحلام، بالذهاب إلى لبنان. غنى وفقر. الفقير المتروك في الخنادق الخلفية، يصبح غنياً، وذا صحة جيدة إذا التحق بقوات الردع. مهمات ورواتب إضافية.
البحر نهب العقول، جعلها صغيرة كبيض السمك. البيع والشراء.. الأجساد المحروقة من شمس الشواطئ الرملية. . نفوس مطاطية يسيل لعابها بارداً على إيقاع وتموجات الأحاديث، عن البرج، والروشة، والبقاع، وساحل مدينة صيدا، عن الفتيات اللواتي يبحثن عن أزواج، عن العوانس والعاهرات.
مضى الشهر الأخير من فترة المناوبة على هذه الحال. أصبحت كروشنا تثقل أجسامنا، ووجوهنا موّردة، كالأغنام في ربيع دسم المرعى.
لفّتنا موجة العودة، وسيارات محمّلة بالأسرّة الحديدية، والخيم الكتّانية، والبطانيات، والأسلحة الفردية.
كانت رحلة قصيرة في الكتيبة الجديدة. وهل ستكون أوامر وتعليمات جديدة؟
كنّا نشاهد، ونرسم بيروت في أحلامنا، وهل تتحقق الأحلام؟ ومتى نذهب كقوات ردع إلى بيروت؟
اصطدمت أحلامنا بالمقرّ الجديد. أرض صخرية، وأشواك، ودروب ضيّقة رسمتها الحيوانات. … حُمرٌ سائبة، وطريق أسفلتي يحمي حدود الكتيبة من جهة الغرب، وقرى متباعدة.
أصبحنا في أرض جرداء. . الهواء البارد، الجاف يحمل معه شتاء قاسياً كيف سنقضي هذا الشتاء، وأين؟
-4-
" الرنكوسي " له ثلاث خصى. الخصية الثالثة تصعد وتهبط، أحياناً تهاجر. يفتش عنها دون أن يجدها، لكنه لم ينجب. يأكل " الصَدَف" ساقيه. وجهه مدوّر كليرة فضية. جسمه نحيل. أبيض البشرة مع اصفرار. اسم زوجته " لطيفة" وهي كذلك. هادئة. تحمل هموماً موجعة. تتنقل بين عيادات الأطباء.
" الرنكوسي"، الملقب بأبي بسام يحبّها، وهي تحبه. جمعهما الفقر. حياتهما بسيطة. وحينما زرتُ أهله في وقت سابق، كانت جلسة هادئة. والده خادم جامع في منطقة المزرعة بدمشق.
غريب أمر الرنكوسي، بثلاث خصى، ولم يُنجب. . أمر هذه الدنيا محيرّ!! بعض الناس يئنّ من كثرة الأولاد، وبعضهم يفتش عن سبب عدم الإنجاب.
عندما تنبسط أسارير الرنكوسي، ويفكر تفكيراً جدياً، يقول : لماذا الأولاد؟
أمن أجل الميراث الذي يتركه والدي! ثم يقف، وينهق كالأتان. .. الحمر تلد إن الله خلقني كبغل أمشي على قائمتين. . البغال، يامحمود لا تلد، لماذا ركبتُ هذه البغلة، وضاجعتها ثلاث سنوات متتالية؟…
تحتفظ لطيفةبالسر. تخبئه عن عمّها، وامرأة عمّها. يخجل الرنكوسي من قول الحقيقة أمام والديه. ومن كثرة إلحاح الوالدين على ابنهما كي يطلّق لطيفة ويتزوج.
جاء ذهابه إلى صيدا مُفرجاً لحالته، ومبرراً تأجيل الطلاق. أصبح الوالدان يفكران به، وحين يسمعان ما يحدث في الجنوب من قصف صاروخي، ومدفعي، وهجوم إسرائيلي، يتقرّبان من لطيفة، ويحاسناها. ينسيان الأولاد يراقبان العائدين من صيدا، ويسألونهم عن ابنهما.
تكتفي لطيفة بالصمت، والنواح. تصلّي. تشتري العسل، وتخلطه بالأعشاب، كدواء عربي لزوجها.. هكذا قال لها الشيخ، وطمأنها بأنها ستُنجب صبياناً وبنات، وسيملؤون البيت بضجيجهم، وصراخهم.
الحلم في صيدا يا محمود أحلام الفقراء تتكسر على شاطئ المتوسط الرملي. بنات صيدا أشهى من فواكه الغوطة!
كانت لطيفة تسمع، وتتمتم، وتظهر ابتسامة جافة على ثغرها.
تقول في سرّها :" بسيطة. . الأيام القادمة ستكشف الحقيقة يا أبا بسام سأقول لوالديك إنك عقيم، وخيرك مسحوب من ظهرك"
هل تعرفون أن صيدا كانت تسمى " صيدون" وصيدون معبد حضاري مرّت على شواطئه شعوب وشعوب.
أصبح الرنكوسي يتحدث عن التاريخ والحضارة. . الذهاب إلى صيدا ثقّف الجنود، وعلّمهم أيضاً فنّ التجارة. صيدا مركز تجاري فينيقي، وميناء نفطي هام. النفط المكررّمن مصفاة الزهراني أغدق على السعودية الدولارات. الذهب الأسود، يتحول إلى ذهب أصفر.
قلت : لا تغرقنا بأحاديث التاريخ والتجارة. مهما ربحت من تهريباتك الصغيرة يا أبا بسام، فعليك أن تنسى وضعك، ولا تسبح في مياه أعمق من مسبحك. السبّاحون الماهرون يصلون إلى الأعماق. مازلت تنكش في رمال الشواطئ، وتصيد صغار السمك. هل ذقت طعم الكافيار؟ جرّب هذه الأكلة. هل تعلمت شرب العرق والويسكي؟
لم أستطع قول ذلك أمام والديه، ونحن نجلس في غرفة ملحقة بالجامع. استغفرتْ لطيفة الله" سبحانك يا الله، يا إله الحق والعدل"
– لا تخافي يا لطيفة. ليس كل ما يحدث مع زوجك تعرفينه بالضرورة. خلّي همّك على قدر حالك. سيعود زوجك بعد شهر، ومع بداية الصيف سيتم تبديل قوات الردع. فهذه فترة استجمام دافئة، ربما مياه البحر المالحة ستشفي زوجك من هذا المرض، ويتخلص من هذه الأدوية، وربما إذا أكل الكافيار، سيعود خيره إلى ظهره، وربما إذا تخلص من الخصية الثالثة سينجب إنها احتمالات
– دخيلك يا محمود اعتبر نفسك لا تعلم بأن زوجي عقيم. أنا التي لا تنجب، وأخرجت ورقة طبيّة، مصدّقة من وزارة الصحة، بأن لطيفة بنت أسعد، أمّها زينب، سالمة صحيّاً، وزوجها عقيم.
الحياة مفتوحة لجميع الناس.. الدنيا واسعة لمليارات البشر، والحيوانات وتتسع لمثل هذا العدد أيضاً، فيها العقيم، والمنجب، الأسمر والأبيض، الأسود والأصفر.
قارات العالم.. هذه الكرة الأرضية، بجبالها وسهولها، وناسها، متنوعة. كل يوم يتعرف الإنسان إلى جديد في هذا الكون، وأبو بسام، ولطيفة جزء من هذه الدنيا. يحتاجان إلى بسمة طفل. إلى طفل يداعبانه يُناغي على فراشهما. يبول على سرير النوم. يصيح كعصفور حين يجوع. يغني. ينطق.
يبقى الأمل يدغدغ الأبوين الحالمين الشاردين في تفكيرهما. وعلى الرغم من أن البحر امتص قسماً من هموم أبي بسام، اتسع البعد بين لطيفة وزوجها.
يظلّ الأمل يتضورّ جوعاً. وتبقى الشهوة ناقصة، لا يتممها سوى طفل أو طفلة، سمراء أو بيضاء، لا فرق بذلك!.
أنتم يا أبا بسام السابقون، ونحن اللاحقون إلى صيدا، أو المنطقة الغربية من بيروت. ولا أحد يعلم أن كتيبتنا سيكون مركزها قرب المجلس الحربي الكتائبي، أم قرب الصيفي .
ملعونة الأرض التي تطرد أبناءها. " طوبي لكم لأنكم ترثون الأرض"
طوبى للجنود الذين يغتسلون بمياه البحر المالحة. ويفترشون الرمال. تغسل السماء خَدَرِها بضوء نجومها. يوزع القمر ابتساماته على سكان الأرض. تحرق أشعة الشمس كل مَنْ يعتدي على حدودها.
أفكار تنقلني من الأرض الوعرة. تمسح روحي بالرذاذ المندفع الذي يترنّم عشقاً للصخرة المشهورة الجاثية قرب الشاطئ. يغسل الناس همومهم فوقها. ويتربّع العشّاق، يتلطّون في خدوشها. يقف فوق رأسها المنتحرون الذين أوجعتهم مآسٍ مجهولة.
قلت مطمئناً : "ستذهب يا محمود إلى بيروت. . بيروت العاصمة، ولكن إلى القسم الشرقي منها"
أسمع عن بيروت، المدينة المفتوحة على العالم. .. بيروت التي يحجّ إليها العمال السوريون، والمصريون. يلجأ إليها الذين يخالفون القانون.. محطة للسياسيين. ملجأ أمين للمطاردين.
بيروت تغفو على رأس بيروت. ترسو بقربها السفن. ويرتاح في فنادقها البحاره.
بيروت أصبحت راكعة أمام القذائف، والصواريخ. . ليلها المكحّل بالفرح صبغته الحرائق بلون الموت. ونهارها الذي يضجّ بالضحكات، والباعة المتجولين، والمحلات الأنيقة، والشوارع النظيفة. تتكدّس في شوارعها وشواطئها آلاف الجثث المحروقة.
صفارات البواخر أصبحت أجراساً حزينة. وتعتلي موجات بحرها الزوارق المطاطية، القادمة من الجنوب، من المستعمرات الصهيونية. ألف ليلة وليلة يابيروت، آلاف الأيام. انهكت قواك قذائف الرذيلة. لم تّعُد كما سمعت عنها، لكنني سأعرفها. أمشي في شوارعها، لأنزع إبر الآلام المغروسة في جوانبها، قلبها.
هيروشيما المدماة مازالت، ومنذ عقود تنزع من جسدها شظايا القنابل. بيروت مثل هيروشيما. تسكن مثلها فوق الشاطئ. تحلم مثلها بسعادة أبنائها، لكن ليست هذه مثل تلك!
جسد بيروت مثقوب بملايين الطلقات والقذائف. ملايين الفوارغ النحاسية في بحرها. ستتحول شواطئك إلى مناجم للنحاس. ستصبحين " سانتياغو" عربية.
تسابق على عشقك مئات الحكام، والناس المهووسون. أصبح طفلك تاريخاً كاملاً يعض على ثدييك. حلمتا ثدييك مقضومتان. تسيل منهما الدماء. تحوّل حليبك إلى دمامل. أبناؤك حرقوا جسدك. أصبح جسدك مطيّة لكل مَنْ يشتهيه. ضاجعوك حتى أصبحتِ لا تشعرين برعشة الأنوثة. حرموك من أمومتك. تحوّلت أعراسك إلى مآتم، وأعيادك إلى مجازر، وتل الزعتر مقبرة جماعية. . جسورك الواصلة بين أعضاء جسدك تنزف دماً.
جفَّ نهرك. يبست شواطئك. . قنبلة موقوتة في خاصرتك الحدودية، ومزارع الليمون والبرتقال مقابر لأسلحة الدمار والموت.
أسمع أناتك الموجعة، وصريف أسنانك ياحبيبة الشعوب والدول.
كم رقصتْ أشعار " حاوي "، وكتب " نعيمة "، ومُناجاة "جبران" على دفّات قلبك، فأصبح قلبك ينبض بالعشق والحب. هل تعودين إلى حبيبك الأول؟ متى؟ كيف؟.
بدأ العقد الثاني، وجلدك يُسلخ كل يوم ألف مرّة. ترسم عليه الأسواط دروباً. تصبغه بالحروق. تحفر فيه الدمامل حفراً، ومآوي للثعبان، والمخمورين والحشاشين. امرأة ثكلى. أولادها يجرفهم السيل. أشواك مراعيها تركت خضرتها في بطون الحيوانات النافعة.
أعلك أحلامي بعيداً عنك. أسمع عزفاً رحبانياً جنوبياً.. لحناً ونواحاً. . لم أَعُد أقدر على التمييز بين موسيقا الموت، وموسيقا الفرح.
تظلّ بيروت تهزّ مشاعر الليل.. متى يابيروت نشرب نخب ولادتك ؟
يجتمع أبناؤك من أقطاب الدنيا. يصلّون في كنائسك ومساجدك.
متى يكسّر أطفالك ألعابهم الحربية، ويلقون بالمسدسات والدبابات البلاستيكية في بحرك؟
أنت أيتها الراقدة على ساحل شرقي المتوسط، ستغتسلين من جديد بمياه البحر يوم زفافك. وينتشر شعرك المنثور على شواطئك.. تلبسين ثوب العرس الممهور بخاتم السلام.
اطمئني يابيروت أن عرساً قادماً سيأتي، وتعودين إلى نشوتك. . إلى أنوثتك، تتأبطين عريسك، وتغنين مع جداول الصباح.
-6-
فتحت بيروت الشرقية لنا صدرها ضاحكة. استقبلتنا، ونحن نعزف لحن الجنازير. مُثقلة سيارتنا بأحمالها.. وجوهنا تلمع بالفرح، مصوّبين سلاحنا نحو الخلف، لأن اتجاهنا بعكس مسير السيارات.
الطريق طويلة إلى بيروت، رغم قصر المسافة. السنة تقترب من نهايتها الشتاء بارد. تزهو ظهور الجبال، تضحك للثلج القادم، لكن هل من أمر إداري جديد؟
أخيراً تأكدت أن القيادة صممت أن تنقلني معها في هذه المرة لكوني خفيف الوزن، ولا أُثقل أحمال الشاحنات. وسيلف بنا الطريق باتجاه "الكرنتينا"، قرب " المجلس الحربي".
لم يَطُل الزمن بين الكتيبة المتجهة إلى صيدا، وكتيبتنا المتجهة إلى شرقي بيروت ضَمُرت المسافة. اختصرت التدريبات لمدة أسبوع، ولأن معنوياتنا عالية. . كتيبة معززة بفصيلة دبابات، وفصيلة مدفعية، وأسلحة وذخائر كافية.
قبل عدة أيام من رحلتنا التي يمكن أن تطول، لا نعرف ماذا يحصل في المستقبل !
التقيت الملازم " بركات"، كانت صلة قرابة تجمعنا، هو من كتيبة الدبابات.
كان الّلقاء ودياً، ولكن إشارات بدأت تقفز فوق وجهه. شككت بالأمر. سألته عن صحة خبر مشاركتنا بقوات الردع، وذهابنا القريب إلى المنطقة الشرقية من بيروت. ابتسم قلت : أتمم! ضحكتك أجعلها طويلة على اتساع هذا الصباح الفلاحي، حيث السماء تبشر بهطول الأمطار.
– لا.. لكن!!..
– ولكن ماذا يا ملازم بركات؟ هل من أشياء جديدة.
– الرجاء ألاّ تخبر أحداً، وبخاصة النقيب، أبو صطيف، مسؤول الأمن.
– لماذا ؟
– لأننا نحن " الاثنين" نعلم بالأمر.
وما الأمر سيدي!.
أعتقد أن أمر نقلك، سيصلك في الأيام القادمة. لم تأكل وجهي المفاجأة. تربّعت على فمي ابتسامة ثقيلة. بدأ الوطن يدور بين مقلتيّ، واتجه قلبي إلى الخط الأمامي.
قلت لنفسي : " ما أجمل وطني الذي يكرّمني، بمعرفة حدوده، حينما يهبني تذكرة السفر. سأستقل أول سيارة إلى أي مكان "
وتابع الملازم بركات.. أعتقد أن القيادة، رغم التقرير الذي وصل عنك من إدارة الجامعة التي درست فيها. سيطمسون الأمر ويتجاوزونه. وستبقى ضمن قواتنا.
وماذا في التقرير؟ هل لّوثت سمعة البلاد في حياتي الدراسية، وكيف؟
– لا. .. لم تصل الأمور إلى هذا المستوى!.
قاطعته. .. قلت كلمتي الأخيرة: على كل حال، خدمة الوطن شرف للمواطن في أية بقعة من أرضه، هما سنتان ونصف، وتمضيان.
ودّعني…. تهاطلت الأمطار بغزارة، تعانق أرضنا الطيبة.
وصلت استعدادات الكتيبة إلى أوجها. وتمّت كل التجهيزات، أحضرت الشاحنات.. ونظفت الأسلحة، وزينت. سُلمت عناصر الكتيبة بذلات عمل جديدة، كذلك أحذية. بدأت التعليمات والتوجيهات تتوارد بالتتابع.
قال "قا.ك": "موقفنا هو الدفاع عن عروبة لبنان، ووضع حد للقوى اليمينية، ومواجهة العدو الرئيسي الذي يعزّز قواته، لشن هجوم مفاجئ على لبنان".
في ليلة الوداع، تصلّبت أذناي. وقف شعر رأسي. تسطرت أمامي صفحات طويلة من المعاناة. تذكرت المقابلة مع أبي صطيف، حينما قال لي: "إنه لم يؤذِ أحداً، وعدّد بعض الأسماء.. إبراهيم. .. جابر. .. رامز. .. كلهم أمضوا خدمتهم الإلزامية في الكتيبة، وأنا أعرفهم، والمعلومات مسجلة في أضابيرهم، ولكنهم كانوا قدوة في العمل والانضباط".
دعاني مرة لتناول طعام الافطار معه. استغللت المناسبة، وأدليت له بالحديث الذي دار بيني، وبين الملازم بركات. طمأنته بأن هذا السرّ سيظل حبيساً بيننا، ولم يخرج من دائرتنا.
قلت: الشجرة الخضراء، عندما تتعرض للرياح تسقط بعض أوراقها، وتبقى الأوراق القوية ملتصقة بالأغصان، ومثبته فيها بحنان.
– ما المقصود من هذا القول؟
– أقصد، أننا من وطنية واحدة، وتنبت تربتنا أزهاراً ملوّنه. لك لونك. ولي لوني. . اللونان تحت سقف واحد، وفي صحن واحد. .. السماء تغطي الجميع.
أخذت الضحكة العريضة مكانها فوق وجهه الأسمر اللامع.
قال: سترافقنا إلى بيروت الشرقية. أما بيروت الغربية، والجنوب، فمحظوران عليك!
شربنا الشاي. . كان الهواء في الخارج يضرب بقوة أركان " البراكيّة" ويزمجر، أسمع أصوات التوتياء تنبئ بقدوم غيوم من شرقي المتوسط… وقذائف، وقنص مسموم. ستكون الأيام القادمة شرسة، وستحلم بيروت، وتغفو مصلوبة فوق الجمر والحرائق، وستعيش قلقاً ودماً ودخاناً، يغطي قلبها، وبحرها!.
– 7-
الرتل طويل. الشاحنات تتقاطر، ونحن مستلقون فوق أكوام البطاريات، والأسرّة، ونودّع العاصمة المثقلة بالغيوم والضباب والهموم. والأشجار تصفّق على جانبي بردى، الذي ارتفع منسوبة بعد صيف حار.
الطريق ضيّقة. .. اتسعت بعد أن قطعنا مدينة "الهامة"، ثم أخذت تضيق ثانية، كلما حاصرتها الجبال من الجانبين.
يمتد بصرنا. تضيع االغوطة بين التضاريس. تفصلنا عنها منحدرات ووديان سحيقة. المصفحات تتقدم الرتل، والرشاشات المتحركة تدور في كل الاتجاهات، مثبتة على السيارات.
الجاهزية عالية خوفاً من كمائن مسلحة، أو مفاجأة ما من العدو الصهيوني! وبعد أن قطعنا "ضهر البيدر"، بدأت تطلّ علينا رؤوس الأشجار، والفيلات الحجرية، والقرى الجبلية الحالمة، والدمار، وبقايا سيارات محترقة، وجدران مطرّزة بمئات الطلقات، أو مصدّعة. . أسواق مفتوحة، ومواد استهلاكية مكدّسة أمام المحلات. . جنود سوريون، وحواجز متنقلة من عناصر تابعة للقوات الوطنية. وماذا بعد هذه المشاهد واللوحات والصور!.
– لا أحد يعرف من صف الضباط أو المجندين شيئاً!
رفع المجند " حيّان" يده. اعتقدتُ أنه يعرف الطريق، لأنه ساهم هو وعشرات العمال ببناء الكثير من الأبنية والقصور لخليجيين، ولبنانيين ومغتربين، حتى قال: أنه ساهم ببناء المجلس الحربي الكتائبي، وبقي عامين في "الكرنتينا".
– أنت يا حيّان دليلنا في هذه الغربة، وفي هذا المشوار الطويل.
– نعم. . ومستعدّ لتسمية جميع المناطق… فهذه الفيّاضية، وهذا جسر الباشا، ثم سن الفيل، وجسر الموت. . نهر بيروت. . النبعة، ثم انعطفت الشاحنات.. وقف حيّان.
مدّ رأسه. .. ردد بهمس. .. هذه بقايا البيت الذي أمضيت فيه أجمل سني عمري! ألا ترون. .. تمعنّوا! إنها " الكرنتينا"، وأشار بيده إلى المجلس الحربي "القيادة العسكرية لحزب الكتائب ".
كانت " الكرنتينا" التي حدّثنا عنها حيّان، ممسوحة عن وجه الأرض. أصبحت ذكرى تعشش في رأسه. ترك فيها أشياء جميلة، وصرّة ممتلئه بالحب والسمر والعشق والتعب، كما قال لنا.
– فما هو أجمل شيء تركته في هذه التربة؟.
كان يضع كفّه ركيزة لخدّه… انتفض مثل كلب أكلته البراغيث، ثم دار باتجاهي، همس بحزن : تركت جزءاً من قلبي !….
– ماذا؟ أَعِدْ !
– فلقةٌ من قلبي.
– أصبح قلبك ناقصاً.
– كرغيف الخبز يا محمود. . وجهها مدوّر. يطفح بالأنوثة. سمرتها جذابة، وقاتلة، بل مميتة. كانت تتسمّر جامدة كقرص الشمس، تنتظرني.
– هذا كلام فارغ، مستهلك.
مطّ كلمته. فا… ر. ..غ…
– أنا " صاخوري"، هل تعرف حي الصاخور في حلب ؟
– " أنتم كدعان، وأبضايات".
– لماذا لا نكون ؟.
– لم أتزوجها، لأنها. .
– ماذا؟ أقلقتني!
-لا يامحمود. لا تقلق. أصابتها شظيّة قطعت ساقها. وانتحرت، أو نحروها!.
الشمس تهبط نحو الغرب. البحر يتشبث بأشعتها كطفل رضيع..
وخيالات السفن تنهض من الأعماق. الدفء يخيّم على طرف بيروت الشرقي- وكانت الأمطار تغسل شوارع المدينة.
خلعت المعطف العسكري. أخذت نَفَساً طويلاً وممتعاً . . هذه بيروت التي حلمت برؤيتها يا محمود… هذه بيروت التي قرأت عنها، أو لمحت صورتها في بطاقة معايدة.. هذه بيروت التي حدثني عنها عمال المواسم.
قلت " تحدثتُ مع قلبي، وذكرياتي": " صورة يتيمة أحتفظ بها.تغطيها نفحات وردية. تذكرت أني عندما كان عمري خمس سنوات. .. حملتني أُمي معها إلى بيروت لوداع خالي المهاجر إلى البرازيل. . من ذاك اليوم عرفت بيروت، ومازالت تسكن مطمئنة بين نبضات قلبي".
مرّت هذه الصورة، كشريط عابر، ونحن نقفز من الشاحنات العسكرية إلى محطتنا الجديدة على كتف الشاطئ اللاهث. الذي أتعبته الأمواج وأسكرته القذائف. .
هذه محطتنا، هذا مقرّنا. بناية عالية. سبعة طوابق فوق الأرض، ثلاثة طوابق تحت الأرض، يشغلها معمل مسعود للشوكولا!
في صباح اليوم الأول أحضر حيّان فنجاني قهوة. جلسنا في شرفة، ينبسط أمامنا البحر. سرحت عيناي فوق الأمواج الهادئة.
قال: أشمّ رائحة الموت. . سنة كاملة تنقلت فيها من حي إلى حي. لا حقتني عشرات الطلقات. نَجوْت منها بصعوبة وكيف نجوت لاأعرف؟
فتح علبة سجائر أميركية جديدة. تلمّس شاربيه الخشنين. أشعل سيجارة. رائحة القهوة، رائحة الدخان، ونسيم يعبق، يحتضن وجهينا.
-بيروت هادئة ياحيّان!
-حرب السنتين ستمتد إلى عقدين، وربما حتى نهاية هذا القرن!
– العلم عند الله، وعند. .. أعتقد أن القرن القادم هو قرن السلام والمحبة!
– أكمل. . لماذا توقفت عن الحديث ؟
– العلم عند الذين يسكرون على رائحة الموت.
– لماذا سكتّ يأخي؟
– لم أسكت يا محمود!
– ماذا جرى لك؟. .. تابع، وإلاّ سرحت مع ذكريات الماضي.
– الماضي يدغدغ أحشائي، ويرفع بوابة قلبي إلى باب السماء.
-أراك انتقلت من الأرض إلى السماء !
– لأن المحاصرين على الأرض تشرئب آمالهم نحو الأعلى.
حاولت استفزازه ببعض العبارات، حول خطيبته " سمر".
قلت: أتعتقد أن انتحار " سمر" كان بسبب قطع رجلها، أم أنك ظلمتها، وأحببت غيرها!..
وقف حيّان متأثراً دون أن يشعر. اقتربتْ تجاعيد وجهه من بعضها، وكادت تقفز إلى وجهي.
خففت عليه الأمر، بقولي: لا أقصد أنك لا تحبها.
لكن.. ماذا؟
حدّثني عن قصة حُبّك.
أدلى حيّان باعترافات حُبّه، كأنه يقرأ قصيده. تخرج من فمه عبارات شاعرية.رغم ضعف ثقافته. علمته التجربة، فتح البحر ثقوباً إبداعيه في رأسه، ثم أخذ يسرد قصته، وأنا أراقب حركاته، وتلاوين وجهه المغبر.
" انتقلت يا محمود من حي الصاخور بحلب- حيّنا فقير، كالكرنتينا – إلى بيروت، وتعرفت على" أبي داني، وهو صاحب تعهدات. أحبّني وأحببته. بقيت أعمل في ورشته سنتين. هذا " المجلس الحربي" الذي تراه، أصبح مقرّاً لقيادة حزب الكتائب. عملت فيه نحو سنة ونصف. ولم أكن أعرف أن هذا البناء سيكون على ماهو عليه الآن، وإنما كنت أسمع أنه بناء لوزارة الدفاع اللبنانية، وأنا لا أتعاطى الأحزاب، والسياسة. حالتي على قدّها".
-لا تحاول أن تبتعد عن جوهر السؤال: كيف تمّت قصة الحب مع سمر؟ " أخذت غرفة بالكرنيتنا بأجرة خمسين ليرة لبنانية شهرياً، ووصلت أجرتي اليومية في تلك الفترة إلى نحو مئة ليرة "
– قبل أن تتعرف عليها كما قلت – وهي من عائلة فلسطينية الأصل- كم فتاة سكنت قلبك؟
" البنات لاتحصى أعدادهنَّ، لكن القلب، عندما يهفو إلى شابة ناضجة، سمراء، عيناها عسليتان، جذّابة، هادئة، تسقط النظرات العابرة. كانت بقعة ضوء قطعت عليَّ كل محاولات المراهقة التي كنت أفكرّ فيها. وهذا الشاطئ الذي يتراءى لك اليوم حزيناً، كان يضم عشاقاً.. شريط بشري يلوّنه، والبحر يُغدق عليه من خيره. تنثر الأمواج رذاذها، ويتطاير شعر سمر، يمسح وجهي. يقبّل وجنتيَّ. يغطي عينيَّ.
قطعت الحرب الأهلية رجلها. كانت الشظية مقصّاً حاداً مزّق أوتار قلبي، ورغم هذا كله، لم أشعر يوماً أنني سأتركها، هي التي فاتحتني بالموضوع.. بدأت حديثها بدمعتين تتقاطر منهما الأوجاع، ثم انفتح مجرى الدموع. بكاء وكلام، يحملان مشاعر إنسانية شفافه، مازالت خالدة، ومؤثرة في نفسي، ولن تموت! وحتى هذا التاريخ أجد صعوبة في نسيان تلك اللحظات المرتعشة من حياتي. . أجد صعوبة في البحث عن وجه جديد وقلب جديد!".
– ماذا قالت: إنك تسترسل !
" قالت : لم أعد أصلح لك يا حيّان. أنت شاب في مقتبل العمر وأنا مُعاقة..
في تلك الليلة الحزينة، بعد أن عادت من المشفى لم أرها، لأن الجرافات "الكتائبية"، والدبابات، مجموعات الموت خرجت جميعها من المجلس الحربي. زحفت على الكرنتينا، ومسحت بيوتها. أصبحت سهلاً منبسطاً، وانطمرت سمر في تربتها..
هذا هو الانتحار! لكنني مازالت أحتفظ بساقها المقطوعة.."
-9-
مرّت ثلاثة أشهر، بيروت تسبح في فضاء هادئ. الحياة طبيعية. . الناس في أعمالهم. التلاميذ في مدارسهم. . البحر ساكن. أمواج خفيفة تقترب من الشاطئ بصعوبة. البواخر تفرغ حمولتها. ويعجّ الميناء بالبضائع والتجار والسماسرة، والمرتزقة.
كنت مع حيّان في دفعة مبيت واحدة. .فكل أسبوع يذهب هو إلى حلب، وأنا إلى دمشق، نقضي ثمانياً وأربعين ساعة عند الأهل والعائلة. أصبحت لدى كل واحد من قوات الردع، بطاقة تُثقب عند الحواجز. كانوا يسمحون بشراء مواد لبنانية بقيمة مئة ليرة فقط.
كانت السيارات العسكرية المنطلقة من بيروت تمرّ في طريق إجبارية " نهر بيروت" وعلى يمينه " كرم الزيتون" و" الأشرفية"، ثم تقطع جسر الموت، باتجاه " سن الفيل"، حيث كانت هناك " قيادة اللواء". هذه المنطقة هي مكان اللقاء بين عناصر الكتيبة الموزعة في عدة مناطق، على خط سير واحد تقريباً. أما السرايا فتتوزع بين بناية " فتّال" و" نهر الكلب "وقرب "المجلس الحربي"، وسرّية رابعة في منطقة "الضبيّة"، سرية الهاون في " برج حمود"، والدبابات سرية ملحقة بقيادة الكتيبة.
تدور القصص والحكايات، والنكات في لحظات قدوم السيارة، قبل أن تتوزع العناصر، الذين يحمل كل منهم، ما جلبه معه من السوق من أدوات منزلية، وثياب وغيرها، فلا يدخل أي شخص بيته إلاَّ ويُسأل :
ماذا تحمل معك من بيروت؟
ورغم الدماء النازفة في شوارع بيروت، ونزوح الناس بمئات الألوف عنها، كانت تغرف من البحر وتسقي أبناءها. تمدّ يدها إلى السماء، تفتح ثغرات ومزاريب من الأمطار. أما جبالها، فكانت تحمل بقعاً من الحزن.. بقعاً ترقّط سفوحها، كمدافن. طلقة واحدة، أو قنصة من متمرّد تخرّب هذا السكون الذي يتحول إلى فوضى، وضجيج، وهروب في كل الاتجاهات. تنعدم صور الجمال. تتحول إلى لوحات ضبابية. تختلط ألوانها، ليس بإمكان أي فنّان أو عالم آثار أن يفصلها عن بعضها.
تنقطع المياه والكهرباء. عيون الناس ممتلئة بالحزن.. ينبعث ضوؤها عبر الجدران المثقوبة. رجال الموت يجوبون الشوارع، يتوزعون على سطوح الأبنية، يقطعون الطرقات الرئيسة، والفرعية، يربضون خلف تحصينات من أكياس الرمل. مرابض المدفعية مزروعة كأشجار سود، وراء القرى، والمدن، وفي بطون الجبال. صفارات الإنذار تعُلن للناس الانتقال إلى الأقبية.
إنها بداية لقتال ودمار، وحصار، وجوع، وعطش.. تختفي أضواء بيروت. الليل في مضجعه، وتقطع القذائف الشمس، وتبعثرها. . وتُدمي البحر. وتغسل الدماء الشوارع الأسفلتية. . تتصاعد في السماء أناّت، ويتعالى الصراخ والضجيج، ولا يسمعه سوى الله الساكن في السماء السابعة.
نترقب المزيد من ابداعاتك المتألقة
تحياتي
لك ودى وتقديرى
تسلم إدينك خيو ..=$
ودي لـ روحك
تسلم إدينك خيو ..=$
ودي لـ روحك