وبه نستعين
الحمد لله الذى ماتقرب إليه أحد بأحب مما أفترضه عليه , فألقى فى قلبه حب النوافل فصار إليه حتى أحبه , فالفضل منه وإليه …
ومدحه بحبه الذى فاق حب الكافر لما هوى شغاف قلبه وعينيه , والذين آمنوا أشد حباً لله …
أعزهم على عدوهم وأذلهم لبعضهم بين يديه , يحبهم ويحبونه أعزة على الكافرين أذلة على المؤمنين …
فطوبى لمن وفقه الله تعالى لمحبته والذل والانكسار بين يديه .
أحمده تعالى وأستعينه وأستغفره وأعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله تعالى فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له , وأ شهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له , وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم …
أما بعد …
قال تعالى: (يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولاتموتون إلا وأنتم مسلمون ﭰ)آل عمران: ١٠٢
قال تعالى: (يأيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحده وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ﭯ) النساء: ١
ﭧ ﭨ ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداًﮭيصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماًﯞ)الأحزاب: ٧٠ – ٧١
ثم أما بعد …
فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى , وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم , وشر الأمور محدثاتها , وكل محدثة بدعة , وكل بدعة ضلالة , وكل ضلالة فى النار …
ثم أما بعد …
وهكذا فقد علمنا معنى الاصطلاح (أهل السنة والجماعة) , وسبب التسمية وذيوعها , وكذلك مشروعيتها , وهذا فى الدرس الفائت , وبقى لنا أن نعلم خصائص العقيدة عند هذه الفرقة المباركة…
خصائص العقيدة عند أهل السنة والجماعة
امتازت مناهج أهل السنة والجماعة فى مسائل الدين وأصوله وفروعه بخصائص , جعلتها تستولى على ناصية الحق ومعاقد التوفيق .
ويتجلى هذا بوضوح فى العقيدة , حيث تجمع إلى الاقتباس من مشكاة القرآن والسنة والوقوف عندهما , والتسليم لهما , الاتساق مع العقل والفطرة , والشمولية فى الفهم والتطبيق , مع التوازن والوسطية .
وفيما يلى تفصيل لهذه الخصائص المباركة فى عقيدة أهل السنة والجماعة …
أولاً : التوقيـــف :-
ويعنى : أن الأمر يكون موقوفاً علماً وعملاً على قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم , فلا يؤخذ من نتاج عقول البشر الضئيلة , إنما تخص بخالص الوحيين ولا تتجاوزهما .
ومن الأسباب التى حملت أهل السنة والجماعة على الوقوف عند النصوص وعدم تجاوزها , مايلى:-
أولاً : تواتر النصوص الآمرة باتباع الكتاب والسنة ولزومهما :-
قال ابن القيم : (روى أبو داود فى مراسيله عن النبى صلى الله عليه وسلم , أنه رأى بيد بعض أصحابه قطعة من التوراة , فقال كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتاباً غير كتابهم الذى أنزل على نبيهم) . فأنزل الله سبحانه وتعالى تصديقاً لذلك : ( أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن فى ذلك لرحمة وذكر لقوم مؤمنين ) .
فهذا حال من أخذ دينه عن كتاب منزل على غير النبى , فكيف بمن أخذه عن عقل فلان وفلان , وقدمه على كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟!.
ثانياً : ثبوت كمال الدين وتمام تبليغ الرسالة :-
قال تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام ديناً) .
قال ابن القيم فعرّف –أى النبى صلى الله عليه وسلم- الناس ربهم ومعبودهم غاية مايمكن أن تناله قواهم من المعرفة , وأبدأ وأعاد , واختصر وأطنب فى ذكر أسمائه وصفاته وأفعاله , حتى تجلت معرفته سبحانه وتعالى فى قلوب عباده المؤمنين , وانجابت سحائب الشك والريب عنها , كما ينجاب السحاب عن القمر ليلة إبداره , ولم يدع لأمته حاجة فى هذا التعريف لا إلى من قبله ولا إلى من بعده , بل كفاهم وشفاهم وأغناهم عن كل من تكلم فى هذا الباب , وعرفهم الطريق الموصل لهم إلى ربهم ورضوانه ودار كرامته , ولم يدع حسناً إلا أمرهم به , ولا قبيحاً إلا نهاهم عنه , كما قال : (ليس من عمل يقرب إلى الجنة إلا قد أمرتكم به , ولا عمل يقرب إلى النار إلا قد نهيتكم عنه) .اهـ
يقول ابن عبد البر : (ليس فى الاعتقاد كله , فى صفات الله وأسمائه إلا ماجاء منصوصاً فى كتاب الله , أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , أو أجمعت عليه الأمة , وماجاء فى أخبار الآحاد فى ذلك كله أو نحوه يسلم له ولا يناظر فيه).اهـ
فبان بذلك قبيح قول من قال بغير الكتاب والسنة , ولم يتوقف عندهما , وقدم عقله وكلام البشر عليهما .
فقد روى عن ابن عباس حينما تكلم بكلام النبى صلى الله عليه وسلم ورد عليه الصحابة بقول أبى بكر وعمر : ( سبحان الله أقول لكم قال النبى وتقولون قال أبو بكر وعمر! )
وانظر للسان حال من قال بغير الكتاب والسنة فى أى مسألة , فإنه لايخلونّ حاله من أحد ثلاثة أحوال :
1- فإما أنه مكذب لله تعالى فى قوله اليوم أكملت لكم دينكم) , فلسان حاله أن الدين ماتم بعدُ .
2- وإما أنه متهماً للنبى صلى الله عليه وسلم بأنه لم يبلغ عن ربه كل ماأمره بتبليغه .
3- وإما أنه يدعى لنفسه أنه على هدى أكمل من هدى النبى صلى الله عليه وسلم , وأن الله آتاه مالم يؤت النبى صلى الله عليه وسلم .
وكل هذا من أفحش القول , ولا يلزم أن يقوله بفمه ليكفر بذلك , ولكن يكفى فعله الدال على مافى قلبه من الزيغ والضلال (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ) .
ثالثاً : حرمة القول على الله بغير علم :-
لقد حرم الله تعالى القول بغير علم مطلقاً , وخص القول بلا علم عليه بالنهى , بل وجعله أشد من الكفر به سبحانه جل فى علاه …
قال تعالى : ( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً ) .
وقال تعالى : ( قل إنما حرم ربى الفواحش ماظهر منها وما بطن والإثم والبغى بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله مالاتعلمون ) .
فانظر لتدرج الآية الأخيرة : فقد تكلم ربنا عن الفواحش ماظهر منها ومابطن , ثم فصل فى الأثم والبغى , والبغى هو الظلم وغالباً مايتعلق بالغير , قال تعالى: ( إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم ) وهذا أكبر من الإثم لتعلقه بحق العباد , ثم ذكر سبحانه الشرك وهو أكبر منهما , ثم ذكر القول عليه بغير علم , وهو عند الله أكبر من الشرك به- فتكون بمثابة أن البدعة أكبر من كبيرة الذنوب -وكلاهما شر وذنب كبير لايغفره الله سبحانه وتعالى .
مظاهر التوقيف عند أهل السنة والجماعة :-
والتوقيف عند النصوص ودلالتها كانت له آثار ومظاهر فى منهج أهل السنة والجماعة , وفى تقرير مسائل الاعتقاد وقطع النزاع حولها , ومن ذلك :-
1) الرد إلى الوحى عند النزاع , قال تعالىفإن تنازعتم فى شئ فردوه إلى الله ورسوله) , قال مجاهد: (كتاب الله وسنة نبيه , ولا تردوا إلى أولى الأمر شيئاً) .
والآية من مبدئها , قال تعالى : ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم ) , فأثبت سبحانه وبحمده طاعة له مفردة , وطاعة لرسوله مفردة , ولم يثبتها مفردة لأولى الأمر ؛ وما ذاك إلا ليدلل على أن طاعتهم موقوفة على طاعة الله ورسوله , كما قال أبو بكر رضى الله عنه : أطيعونى ما أطعت الله فيكم …
وبعدها حينما دل على ما يُفعل لرد التنازع ذكر الله ورسوله فقط , فقال تعالى: (فإن تنازعتم فى شئ فردوه إلى الله والرسول …)
وعلى هذا يتم تخريج وفهم كل النصوص التى تأمر باتباع أمر أولى الأمر من العلماء والربانيين , كما قال تعالى : ( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ).
فلا طاعة ولا اتباع لهم ,إلا إذا قالوا بكلام الله أو كلام رسوله , وكان فهمهم صحيحاً لما جاؤا به , وبكون هذا هو القيد المفضى لاتباعهم , فلا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق .
2) حبس اللسان عن الكلام فى العقيدة إلا بدليل هاد من الكتاب أو السنة , واعتماد مصطلحات الكتاب والسنة عند تقرير مسائل الاعتقاد وأصول الدين , والتعبير بها عن معانى الشرع وفق لغة القرآن وبيان الرسول , قال تعالى : ( يأيها الذين آمنوا لاتقدموا بين يدى الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم ) , قال ابن عباس : ( أى لاتقولوا خلاف الكتاب والسنة ) .
3) التسليم لله تعالى وللرسول صلى الله عليه وسلم , فالله لايُسئل عما يفعل , والرسول لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى .
4) سد باب الابتداع والإحداث فى الدين , ورد جميع ماخالف سنة النبى صلى الله عليه وسلم . عن ابن مسعود رضى الله عنه : ( إنا نقتدى ولا نبتدى , ونتبع ولا نبتدع , ولن نضل ماتمسكنا بالأثر ) .
5) وأخيراً فإن هذه التوقيفية والربانية لها أثر عظيم فى عصمة أهل السنة والجماعة فى الإجمال لا العموم , وعصمة المنهج على التفصيل لا الإجمال من الخطأ والزلل والانحراف والاضطراب فى فهم العقيدة , وترك التخليط فى مصادر التلقى والمرجعية , وهذه العصمة مستمدة من صاحب المنهج ألا وهو الله سبحانه وتعالى الذى أوحى به لنبيه ورسوله المعصوم صلى الله عليه وسلم ليبلغه لنا .
فاللهم ارزقنا الثبات على دينك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم حتى نلقاك , ومتعنا اللهم بالنظر لوجهك الكريم فى غير ضراء , واحسن ختامنا ولا تتوفنا إلا وأنت راض عنا … آمين
جزاكم الله خيراً على متابعتكم ومشاركتكم …
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته