الحسين بن عليّ -رضي الله عنه- غرّة في جبين أمّة هي خير أمّة أخرجت للنّاس، وسيّد من سادات أفضل وأطهر بيت في تاريخ البشريّة كلّها، وعَلَم من أعلام جيل هو خير جيل دبّ على الثّرى، وخير جيل تمسّك بالعروة الوثقى، وضرب أروع الأمثلة في الشّجاعة والتّضحية والورع والتُقَى.
من هو الحسين؟
إنّه حفيد أفضل البشر وخير الأنبياء وإمام المرسلين. إنّه ابن علي بن أبي طالب، أسد الله الغالب وصاحب المناقب، أفضل البشر بعد الأنبياء والمرسلين، وبعد أبي بكر وعمر وعثمان ذي النّورين. إنّه ابن فاطمة بنت رسول الله – صلّى الله عليه وآله وسلّم-، سيّدة نساء العالمين وسيّدة نساء أهل الجنّة؛ الصدّيقة بنت إمام المرسلين وسيّد الأوّلين والآخرين.
إنّه حِبّ رسول الله- صلّى الله عليه وآله وسلّم- وريحانته من هذه الدّنيا، أحَبّه النبيّ – عليه الصّلاة والسّلام- مع أخيه الحسن حبّا جمّا وكان يقول عنهما: (هذان ابناي، وابنا بنتِي، اللهمّ إنّي أحبّهما فأحبَّهما، وأحبّ من يحبّهما).
خلاصة حكم المحدث: حسن
إنّه القانت الصوّام القوّام؛ كان لا يُرى في اللّيل إلا قائما وفي النّهار إلا صائما، سبّاقا إلى الخير مسارعا في المعروف؛ حجّ 25 حجّة مشيا على قدميه رضي الله عنه وأرضاه.
إنّه صاحب اليد البيضاء، الجواد الكريم المعطاء؛ كان يوصي النّاس فيقول: "حوائج النّاس إليكم من نعم الله عليكم، فلا تملّوا النّعم فتعود نقما".
إنّه الأسد الضّرغام الذي لا يخاف في الله وفي الحقّ لومة لائم. إنّه الشّجاع المقدام الذي كان من فرسان ساحات النزال وأبطال ميادين القتال، شارك في الجيش الذي قصد جرجان تحت قيادة سعيد بن العاص، وكان مع الجيش الذي غزا إفريقيا بقيادة عبد الله بن أبي السرح، وفي الجيش الذي ظفر في فتوحات شمال إفريقيا في حدود سنة 27 هـ، وشارك في الجيش الذي غزا طبرستان سنة 30 هـ، وفي الجيش الذي غزا القسطنطينية في عهد معاوية بن أبي سفيان سنة 51 هـ.
ويوم حاصر أهل الفتنة دار الخليفة المظلوم عثمان بن عفان رضي الله عنه، كان الحسين مع أخيه الحسن رفقة عدد من شباب الصّحابة على رأسهم عبد الله بن الزّبير، ممّن وقف على باب عثمان للدّفاع عنه؛ وقفوا رضي الله عنهم كالأسود يدافعون عن عثمان ويردّون أهل الفتنة عن داره حتى تخضّبوا بالدّماء، وألحّ عليهم عثمان بترك القتال دونه.
ويوم عهِد معاوية بن أبي سفيان بالأمر من بعده إلى ابنه يزيد، قام الحسين- رضي الله عنه- قومة الأسد الهصور ينكر أن يتحوّل الأمر من الشّورى إلى الملك العضوض، وضحّى بماله وأهله ونفسه في سبيل أن يردّ الأمر إلى ما كان عليه في عهد الخلفاء الرّاشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن، وسجّل على سِجلّ التاريخ صفحة من أنصع صفحات التّضحية لأجل هذا الدّين.
الحسين أكبر من أن يختزل في يوم عاشوراء
هذا هو الحسين بن عليّ رضي الله عنه، حياة عامرة بالبذل والعطاء والجهاد والتّضحية والفداء. فهل يليق بعد كلّ هذا أن تختزل حياته كلّها في يوم واحد هو يوم عاشوراء، حتى يُظنّ أنّه لم يعش في هذه الدّنيا إلا يوما واحدا هو اليوم العاشر من شهر محرّم سنة 61 هـ، وأنّه لم يخرج إلى هذه الدّنيا إلا ليقتل؟!
إنّه منتهى الحيف والجور في حقّ هذا الإمام الهمام أن تطوى كلّ تلك الصّفحات العطرة من سيرته، وتختزل حياته في يوم واحد، وتدفن 57 سنة قضاها فاتحا مجاهدا، وعابدا زاهدا، بالمعروف آمرا وعن المنكر ناهيا.
لحساب مَن ولحساب ماذا يُدفن تاريخ الحسين وتدفن سيرته العطرة؟ لماذا يُصرف بعضُ المسلمين عن الاقتداء بسيرته إلى اللّطم والتّطبير في يوم استشهاده، مع أنّ روحه الطّاهرة هي الآن تسرح وتمرح في أعالي الجنّة؟
لقد أكرم الله ريحانة نبيّه- صلّى الله عليه وآله وسلّم- بالشّهادة وانتقم من قاتليه الذين اختاروا لأنفسهم أن يكونوا من شرار الخلق عند الله ويبوؤوا بلعنات الصّالحين من عباده؛ يقول ابن تيمية رحمه الله: "من قتل الحسين أو أعان على قتله، أو رضي بذلك، فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً" (مجموع الفتاوى).
اشترك في دم الحسين- رضي الله عنه- يزيد بن معاوية بحبك المؤامرة، وعبيد الله بن زياد والي الكوفة وزبانيته بالتنفيذ والظلم والبغي، وأهل الكوفة- الذين كانوا يدّعون موالاة أهل البيت- بخذلانهم ومشاركتهم جنود عبيد الله بن زياد في قتله. وقد انتقم الله تبارك وتعالى من هؤلاء جميعا، فقتل بعضهم شرّ قتلة، وأصيب بعضهم بالجنون، وهم الآن بين يدي من هو ((أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً))، ومن ((لاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِين)).
فلأجل أيّ شيء لا يزال فئة من المسلمين بعد مرور ما يقارب 14 قرنا من استشهاد الحسين وهلاك قتلته، ينادون بالثارات؟ لماذا ينادون بالثّارات وممّن سيثأرون؟ ثمّ ما ذنب الصّحابة الأبرار الذين اتّخذ هؤلاء لعنهم قربة في عاشوراء من كلّ عام؟ ما ذنبهم وقد كانوا يتقرّبون إلى الله بمحبّة وإكرام أهل بيت نبيّه- صلّى الله عليه وآله وسلّم- عامّة والحسين خاصّة؟ وما ذنب جماهير المسلمين الذين يتقرّبون إلى الله بالجمع بين محبّة الصّحابة ومحبّة أهل البيت؟ لحساب من وإلى متى يا ترى سيظلّ أولئك المغرّر بهم مصرّين على لعن سادة هذه الأمّة؟ وإلى متى سيظلّون مصرّين على شقّ صفّ الأمّة بالدّعوة إلى الثّأر لقتل الحسين، بقتل الأبرياء الذين يتقرّبون إلى الله بمحبّته وموالاته، ويتمنّون أن لو كانوا معه ليفدوه بدمائهم؟
لقد سجّل التّاريخ أنّ حمزة بن عبد المطلب عمّ النبيّ- صلّى الله عليه وآله وسلّم-، قتل وجدع أنفه وبقرت بطنه وأخرجت كبده، وعاش النبيّ- صلّى الله عليه وآله وسلّم- بعد استشهاده أكثر من سبع سنوات، لم يعقد فيها مآتم ولا مناحات. بل حينما دخل مكّة فاتحا عفا عن قريش- وفيهم قتلة عمّه- وقال: (اذهبوا فأنتم الطّلقاء).
وبعد النبيّ- صلّى الله عليه وآله وسلّم- قُتل الفاروق عمر بن الخطّاب، وقتل ذو النورين عثمان بن عفان، وقتل أبو السبطين علي بن أبي طالب، وبعد الحسين قتل عبد الله بن الزبير واحتزّ رأسه وصلب، في حياة أمّه أسماء ذات النّطاقين، ولم تُعقد لهم المآتم والمناحات، ولم ترفع الدّعوات للثّأر لهم، على الرّغم من أنّ طائفة من المسلمين جعلوا من يوم مقتل عثمان بن عفّان- الموافق ليوم 18 من ذي الحجّة- عيدا هو أكبر الأعياد عندهم على الإطلاق، أسموه "عيد الغدير"، وزعموا أنّه اليوم الذي توّج فيه عليّ- رضي الله عنه- بالخلافة، بل وجعلوا من يوم مقتل عمر بن الخطّاب- الموافق عندهم للتّاسع من شهر ربيع الأوّل- يوم فرح وأسموه "يوم فرحة الزّهراء"، وزعموا أنّه اليوم الذي توّج فيه المهديّ الغائب المنتظر بالإمامة!
جماهير المسلمين يلعنون الظّالمين بالعموم، ويلعنون قتلة الحسين والرّاضين بقتله بالخصوص، ولكنّهم لا يلعنون معيّنا باسمه، لا من قتلة الحسين ولا من قتلة عثمان، ولا من قتلة عبد الله بن الزبير.
إنّ قاتلي الحسين قد أفضوا إلى ما قدّموا، فلماذا تفرّق الأمّة بلعن الأبرياء من الصّحابة والخلفاء، ولماذا تؤجّج الضّغائن والأحقاد على أمّة الإسلام وعلى تاريخها؟
الحقّ يقال إنّ القضية قضية تجارة بأهل بيت النبيّ- صلّى الله عليه وسلّم-، امتهنها دعاة الفتنة والفرقة من أصحاب الأغراض لتحصيل الأخماس باسم حقّ أهل البيت، واستباحة الفروج باسم نكاح المتعة، وغرس الأفكار الغريبة عن الإسلام التي يحتاج غرسها إلى تخدير العقول وتهييج العواطف، وعن طريق هذه المناحات التي تعقد كلّ عام صار بعض المغرّر بهم من شباب هذه الأمّة أسرى لأصحاب العمائم، يؤصّلون في نفوسهم ما تستحيله العقول وتستشنعه الفطر من الخرافات والأساطير.
إنّنا نتمنّى من خالص قلوبنا للمغرّر بهم من أبناء هذه الأمّة أن يعودوا إلى رشدهم ويحكّموا عقولهم، ويعرضوا ما يلقى على أسماعهم في الحسينيات على منهج أهل البيت الذي بيّنته مئات الرّوايات التي حوتها كتبهم، وتتّفق تماما مع ما روته دواوين الإسلام عن أولئك الأطهار، ممّا يحرص علماؤهم على إخفائه.
سلطان بركاني