لقد رأى (هيرودوت) أن ليبيا تمتد من حيث تنتهى مصر الغربية. وقد حدد ساحل ليبيا الشمالى بما يلى بحيرة مريوط الى رأس (سولوجوس) (رأس سبارتل) جنوبى طنجة على المحيط الاطسى(1). وقد اشار بان المجموعات السكانية التى تقيم على امتداد هذه المنطقة كلها تنتمى الى ارومة واحدة وهى موزعة على مجموعات من القبائل عدا الاجزاء التى يقيم بها الاغريق والفينيقيين(2). وقد جعل (هيرودوت) بحيرة (تريتونيس)-والتىتقع على الأرجح عند خليج قابس-الحد الفاصل بين مجموعتين من الليبيين احدهما تعيش الى الغرب من البحيرة وتتألف من زراع آلفوا حياة الاستقرار والاخرى تعيش الى الشرق من البحيرة وتتألف من بدو رعاة(3). ونلاحظ ان (هيرودوت) لم يفرق بين هذه المجموعات الليبية من حيث الجنس وانما من حيث اختلاف نوع حياة كل منهما عن الاخرى. ويبدو بوضوح ان هذا التمييز جعل العلماء المحدثون يقسمون ايضا الليبيون القدماء الى مجموعتين : ليبيون شرقيون وليبيون غربيون(4). ولم تقتصر ليبيا لدى(هيرودوت)على المنطقة الساحلية فقط بل انه ضم اليها الواحات والصحراء. وقد اشار الى ذلك بكل وضوح فى الكثير من فقرات كتابه الرابع حيث يقول : "لقد تحدثت فى السابق عن الليبيين الرعاة الذين يسكنون على ساحل البحر ولكن اسفل هذه المناطق توجد مناطق ترتادها الوحوش المفترسة. واسفل المنطقة السابقة يوجد شريط رملى يمتد من طيبة فى مصر حتى اعمدة هرقل(مضيق جبل طارق). وتقع على هذا الشريط الرملى روابى تحيط بها الرمال ويتوسط كل واحدة نبع يقدف ماءا باردا عذبا. وحول هذه الروابى يقيم السكان مضاربهم(5). وقد اشار(هيرودوت)الى ان هذه الروابىكثيرة وتبعد عن بعضها البعـض مسيرة عــشرة ايام. ومما لاشــك فــيه ان الروابى التى يقصدها هــى الواحات الكثيرة التى تنتشر على طول المنطقة الداخلية من ليبيا. وبالفعل فقد ذكر(هيرودوت)البعض من هذه الواحات مثل : واحة (الامونيين) ويعنى بهم الذين يعبدون الاله(امون) وهـم سكان واحة سيوة. ثـم ذكــر سكان واحة اوجلــة وواحات الجرامنت(6). وقد اشار(هيرودوت) بان خلف هذا الشريط الرملى الذى يضم العديد من الواحات توجد الاجزاء الجنوبية والداخلية من ليبيا والتى هى صحراء حيث لا يوجد بها لا الماء ولا الحيوانات ولا المطر ولا الاشجار ولا أى اثر لحياة بشرية(7). وعليه نستطيع ان نعمم اسم ليبيا والليبيون القدماء على كل شمال افريقيا والصحراء الكبرى.
ويطلق على هذه المنطقة اليوم اسم المغرب العربى وتنقسم الى خمسة اقطار وهى : ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا. وتسهيلا لدراسة هذه المنطقة خلال عصورها التاريخية القديمة اطلقنا عليها اسم المغرب القديم. والجدير باالذكر ان العلامة ابن خلدون فى كتابه العبر وديوان المبتدأ والخبر قد سبقنا الى اطلاق هذا الاسم على هذه المنطقة منذ اكثر من سبعة قرون مضت(8) وبالتالى فان ليبيا والليبيون القدماء هى نفسها المغرب القديم وسكان المغرب القديم ولذلك فاننا عندما نتحدث عن الليبيين القدماء فاننا نقصد الحديث عن منطقة المغرب القديم وعن سكان المغرب القديم فى العصور القديمة.
يمكن التعرف على الليبيين القدماء من خلال قسمين من المصادر الأثرية والتاريخية : المصادر المصرية القديمة التي تمتد منذ عصر ما قبل الأسرات وحتى مجئ الإغريق إلى منطقة الجبل الأخضر وما حوله في القرن السابع قبل الميلاد والمصادر الإغريقية والرومانية والبيزنطية التي تمتد منذ مجئ الإغريق، وحتى الفتح الإسلامي العربي في القرن السابع الميلادي ونلاحظ من خلال هذه المصادر -خاصة المصادر الأولى- أنها كتبت من جانب واحد وهو الجانب غير الليبي وهى بذلك لا تخلو من مبالغة وتحيز خاصة أن الحفريات الأثرية في الفترة الأولى وهى الفترة ذات العلاقة بالمصريين القدماء لم تمدنا بمعلومات ذات قيمة نستطيع من خلالها كتابة تاريخ متسلسل لهذه المنطقة فى حين أن المصادر الثانية وهى المصادر الإغريقية والرومانية رغم أنها هى الأخرى كانت من الجانب الإغريقى والروماني فقط إلا أن الحفريات الأثرية أثبتت الكثير من القضايا الهامة من تاريخ هذه المنطقة فى تلك الفترة.
اولا- المصادر المصرية القديمة:
يمكن تقسييم المصادر المصرية القديمة حسب مراحل تاريخ منطقة وادي النيل فى العصور القديمة إلى عدة أقسام وهى :
أ-وثائق ما قبل الأسرات وبداية الأسرات : نلاحظ على هذه المصادر أنها عبارة على مناظر عامة منقوشة لا تصحبها نصوص كتابية لأن الكتابة الهيروغليفية فى ذلك الوقت لم تكتمل عناصرها بعد وهذه المصادر هى :
1-مقبض سكين جبل العرق : عثر على هذا المقبض تجاه نجع حمادي باالصحراء الشرقية.تمثل الرسومات التى على هذا المقبض رجال لهم خصلة مـن الشعر على شكــل ظفيرة ويلبسون كيس العورة وهى صفات يتخذها الباحثون علامات مميزة لليبيين القدماء فى ذلك الوقت.
2-لوحة الصيد او ما يعرف بلوحة الأُسود: تصور هذه اللوحة عدداً من الرجال يحملون الاقواس والحراب وعصي الرماية وحولهم حيونات كثيرة للصيد ويزينون شعورهم بالريش ويرتدون كيس العورة ولهم ديول تتدلى من قمصانهم وكل هذه الصفات اتخدها الباحثون كعلامات لليبيين القدماء وهى من العلامات التى شاهدناها بكثرة فى الرسوم الصخرية بالصحراء الكبرى وهى رسوم ترجع لعصور ما قبل التاريخ.
3-لوحة التحنو : وتعتبر هذه اللوحة أهم الشواهد الأثرية التى تدل على الليبيين القدماء وقد عثر عليها فى ابيدوس فى مصر العليا وقد استطاع العالم الألمانى تاسيتى من خلال هذه اللوحة أن يميز العلامة الهيروغليفية التى تدل على التحنو نجد على أحد وجهى هذه اللوحة رسومات تمثل سبع مدن محصنة متحالفة استطاع أن ينتصر عليها الملك. أما على الوجه الآخر فنجد ثلاثة صفوف تمثل ثيران وحمير وأغنام وأسفلها أشجار زيتون بالقرب منها العلامة الهيروغليفية التى تدل على التحنـو.
4-لوحة التوحيد: لقد ظهر اسم التحنو خلال الأسرة الأولى (3400- 3200 ق.م.) فى عهد الملك نعرمر على أسطوانة من العاج تعرف باسم لوحة التوحيد. ويبدو الملك فى هذا النقش وهو يضرب مجموعة من الأسرى الجاثمين نقش فوقهم عبارة تحنو باللغة الهيروغليفية ولقد اختلف المؤرخون في تفسير هذه اللوحة فنجد برستد يعبر عنها ب(نعرمر ينتصر على الليبيين) في حين نجد (دريتون) و(جاردنر) يعبر عن هذه اللوحة ب (نعرمر ينتصر ويهزم سكـان الوجه البحري وهو يوحد القطرين). ونلاحظ أن جميع هؤلاء الباحثين على صواب لأن الكثير من العلماء يعتقد أن نعرمر استطاع توحيد منطقة وادي النيل بعد أن طرد منها الليبيين الذين كانوا يقيمون في الوجه البحري والملفت للنظر هنا أنه لا يمكن التمييز بين صور وأشكال أهل الدلتا في هذه اللوحة وبين التحنو أو الليبيون الذين ميزتهم الرسوم المصرية القديمة بأنهم اشخاص ملتحون ويزينون شعورهم بالريش ويرتدون كيس العورة وتتدلى من قمصانهم القصيرة ذيول (9).
ب-وثائق الدولة القديمة(2900-2280ق.م.): يلاحظ على هــذه الوثائق بأنهـا ابتداء مـن الدولة القديمة أصبحت تدون عن طريق الكتابة الهيروغليفية ففى بعض الأحيان تكون النصوص مختصرة وفى أحيان أخرى تكون مفصلة إلى أبعد الحدود ويمكن تقسيمها على النحو الاتى :
1-نص الملك سنفرو مؤسس الأسرة الرابعة على حجر بالرمو : ويفيد النص أن الملك سنفرو قاد حملة ضد التحنو وأسر منهم 1100 أسير واستولى على 13100 رأس من الماشية والاغنام.
2-نصوص الملك سحورع من الأسرة الخامسة على جدران معبد الملك سحورع: لقد زودتنا هذه النقوش بمعلومات وافية عن التحنو خاصة فيما يتعلق بسماتهم البشرية وملابسهم وبعض الميزات الأخرى التى تذكرنا بصور الليبيين القدماء التى استقيناها من وثائق ما قبل الأسرات وبداية الأسرات.
3-نصوص أونى حاكم الجنوب: يذكر أونى حاكم الجنوب على جدران مقبرته فى أبيدوس بأنه قاد جيشا ضد بدو آسيا فى عهد الملك بيبى الأول (الأسرة السادسة) وكان يتكون الجيش من العديد من سكان الجنوب ومنهم سكان بلاد التمحو ويبدو أن هذه الإشارة أول ذكر لقبائل التمحو.
4-نصوص حرخوف حاكم وقائد القوافل فى الجنوب (الأسرة السادسة): لقد وصف حرخوف من خلال النصوص التى تركها على جدران مقبرته فى الفنتين رحلاته إلى إقليم يام فى النوبة وأنه تقدم حتى وصل بلاد التمحو التى تقع فى الجنوب الغربى من النيل.