قال تعالى :{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) [الفرقان/32]
وقالً اليَهُودُ : هَلاَّ أُنْزِلَ القرآنُ على مُحَمدٍ دُفَعةً واحِدةُ كما أُنْزِلت الكُتبُ السابقةُ على الأنبيَاءِ . وَيُرُدُّ اللهُ تَعالى عَلى قَوْلِهِمْ هذا ، قائلاً : إنهُ إنما أُنزلَ القُرآنُ مُنَجًَّماً في ثَلاثٍ وعِشرينَ سَنةً بحَسَبِ الوَقَائِعِ ، وما يُحْتَاجَ إليه منَ الأَحكَامِ لِيُثَبِّتَ قُلوبَ المُؤمنينَ بهِ ، ويُثَبِّتَ قَلْبَ الرّسولِ ، وقد أنزَلَهُ اللهُ على مَهْلٍ هكَذا على رَسُوله ، وقَرَأَهُ عليهِ ، بلِسانِ جِبريلَ عليهِ السَّلامُ ، شَيئاً فَشَيئاً لِيتَمَكنَّ مِنْ حِفْظَهِ واسْتِيعابِهِ
لقد جاء هذا القرآن ليربي أمة ، وينشئ مجتمعاً ، ويقيم نظاماً . والتربية تحتاج إلى زمن وإلى تأثر وانفعال بالكلمة ، وإلى حركة تترجم التأثر والانفعال إلى واقع . والنفس البشرية لا تتحول تحولاً كاملاً شاملاً بين يوم وليلة بقراءة كتاب كامل شامل للمنهج الجديد . إنما تتأثر يوماً بعد يوم بطرف من هذا المنهج؛ وتتدرج في مراقيه رويداً رويدا ، وتعتاد على حمل تكاليفه شيئاً فشيئاً ، فلا تجفل منه كما تجفل لو قدم لها ضخماً ثقيلاً عسيراً .
وهي تنمو في كل يوم بالوجبة المغذية فتصبح في اليوم التالي أكثر استعداداً للانتفاع بالوجبة الثالثة ، وأشد قابلية لها والتذاذاً بها .
ولقد جاء القرآن بمنهاج كامل شامل للحياة كلها . وجاء في الوقت ذاته بمنهاج للتربية يوافق الفطرة البشرية عن علم بها من خالقها . فجاء لذلك منجماً وفق الحاجات الحية للجماعة المسلمة ، وهي في طريق نشأتها ونموها . ووفق استعدادها الذي ينمو يوماً بعد يوم في ظل المنهج التربوي الإلهي الدقيق . جاء ليكون منهج تربية ومنهاج حياة لا ليكون كتاب ثقافة يقرأ لمجرد اللذة أو لمجرد المعرفة . جاء لينفذ حرفاً حرفاً وكلمة كلمة ، وتكليفاً تكليفاً . جاء لتكون آياته هي « الأوامر اليومية » التي يتلقاها المسلمون في حينها ليعملوا بها فور تلقيها ، كما يتلقى الجندي في ثكنته أو في الميدان « الأمر اليومي » مع التأثر والفهم والرغبة في التنفيذ؛ ومع الانطباع والتكيف وفق ما يتلقاه . .
من أجل هذا كله نزل القرآن مفصلاً . يبين أول ما يبين عن منهجه لقلب الرسول ويثبته على طريقه؛ ويتتابع على مراحل الطريق رتلاً بعد رتل ، وجزءاً بعد جزء : { كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً } . .
والترتيل هنا هو التتابع والتوالي وفق حكمة الله وعلمه بحاجات تلك القلوب واستعدادها للتلقي . .
ولقد حقق القرآن بمنهجه ذاك خوارق في تكييف تلك النفوس التي تلقته مرتلاً متتابعاً ، وتأثرت به يوماً يوماً ، وانطبعت به أثراً أثراً . فلما غفل المسلمون عن هذا المنهج ، واتخذوا القرآن كتاب متاع للثقافة ، وكتاب تعبد للتلاوة ، فحسب ، لا منهج تربية للانطباع والتكيف ومنهج حياة للعمل والتنفيذ . لم ينتفعوا من القرآن بشيء ، لأنهم خرجوا عن منهجه الذي رسمه العليم الخبير . .
—————-
وقال تعالى :{ وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) [الإسراء/106]
وَآتَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ قُرْآناً نَزَّلْنَاهُ عَلَيْكَ مُفَرَّقاً وَمُنَجَّماً لِتَتْلُوَهُ عَلَى النَّاسِ ، وَتُبَلِّغَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى مَهْلٍ ( عَلَى مُكْثٍ ) ، لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ حِفْظِهِ ، وَفَهْمِ أَحْكَامِهِ ، وَالتَّمَعُّنِ فِيهَا لِتَرْسَخَ فِي عُقُولِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ . وَقَدْ نَزَّلْنَاهُ شَيْئاً فَشَيْئاً بِحَسَبِ الظُّرُوفِ وَالحَوَادِثِ وَالوَقَائِعِ ( نَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً ) .
وَفَرَّقْنَاهُ بِالتَّشْدِيدِ – كَذَلِكَ كَانَ يَقْرَؤُهَا ابْنُ عَبَّاسٍ : وَمَعْنَاهَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ آيَةً فَآيَةً مُفَسَّراً وَمُبَيَّناً لِتَتْلُوَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مَهَلٍ ، وَتُبْلِغَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى مَهَلٍ .
لقد جاء هذا القرآن ليربي أمة ، ويقيم لها نظاماً ، فتحمله هذه الأمة إلى مشارق الأرض ومغاربها ، وتعلم به البشرية هذا النظام وفق المنهج الكامل المتكامل .
ومن ثم فقد جاء هذا القرآن مفرقاً وفق الحاجات الواقعية لتلك الأمة ، ووفق الملابسات التي صاحبت فترة التربية الأولى . والتربية تتم في الزمن الطويل ، وبالتجربة العملية في الزمن الطويل . جاء ليكون منهجاً عملياً يتحقق جزءاً جزءاً في مرحلة الإعداد ، لا فقهاً نظرياً ولا فكرة تجريدية تعرض للقراءة والاستمتاع الذهني!
وتلك حكمة نزوله متفرقاً ، لا كتاباً كاملاً منذ اللحظة الأولى .
ولقد تلقاه الجيل الأول من المسلمين على هذا المعنى . تلقوه توجيهاً يطبق في واقع الحياة كلما جاءهم منه أمر أو نهي ، وكلما تلقوا منه أدباً أو فريضة . ولم يأخذوه متعة عقلية أو نفسية كما كانوا يأخذون الشعر والأدب؛ ولا تسلية وتلهية كما كانوا يأخذون القصص والأساطير فتكيفوا به في حياتهم اليومية . تكيفوا به في مشاعرهم وضمائرهم ، وفي سلوكهم ونشاطهم . وفي بيوتهم ومعاشهم . فكان منهج حياتهم الذي طرحوا كل ما عداه مما ورثوه ، ومما عرفوه ، ومما مارسوه قبل أن يأتيهم هذا القرآن .
قال ابن مسعود رضي الله عنه كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن .
ولقد انزل الله هذا القرآن قائماً على الحق : { وبالحق أنزلناه } فنزل ليقر الحق في الأرض ويثبته : { وبالحق نزل } . . فالحق مادته والحق غايته . ومن الحق قوامه ، وبالحق اهتمامه . . الحق الأصيل الثابت في ناموس الوجود ، والذي خلق الله السماوات والأرض قائمين به ، متلبساً بهما ، والقرآن مرتبط بناموس الوجود كله ، يشير إليه ويدل عليه وهو طرف منه . فالحق سداه ولحمته ، والحق مادته وغايته . والرسول مبشر ومنذر بهذا الحق الذي جاء به .
ـــــــــــــ
تسلم
ينقل للقسم الانسب