في البحث عن الخريطة الحقيقية لجزيرة العرب آخر تحديث:السبت ,20/12/2008
محمد الأسعد / صحيفة الخليج الإماراتية .
1/1
قد يبدو عنوان مثل “هوية جزيرة العرب” فضول قول، أو تكرارا لبدهية معروفة لاغنى في إعادة التأكيد عليها، فمن ذلك الذي لايعرف هوية هذه الجزيرة؟ ومن ذلك الذي ينكر عليها هويتها العربية؟ لا أحد بالتأكيد، ولكن حين تذكر جزيرة العرب الآن في الأدبيات الشائعة، هل تتبادر إلى الذهن هويتها الجغرافية والسكانية الحقيقية؟ أم أن ما يتبادر إلى الذهن لايعدو التعبير الشائع المغلوط “شبه الجزيرة العربية” بكل ما يستتبعه هذا التعبير من تصورات عن جغرافية الأرض والمعمار والسكان واللغة تحصر هوية الجزيرة في جزء واحد من أجزائها، وتستبعد أجزاء أخرى؟
الحقيقة أن هذا التعبير المغلوط الأخير والمعتاد الذي تتداوله غالبية وسائط الإعلام أصبح شبه شائعة ثبتها التكرار، وعلى هذه الشائعة قامت أبنية ذهنية وتقاليد بحثية لاتراجع أساس التسمية العجيبة: شبه الجزيرة. فهل سكن العرب في الماضي والحاضر شبه جزيرة كما تدل هذه التسمية؟ وهل يكون الباحث والكاتب والمفكر على هدى حين ينطلق من مفهوم شبه الجزيرة، أي الأرض المحاطة بالماء من ثلاث جهات؟
قبل بضع سنوات قليلة، وفي سياق مناقشة لي مع مستشرق غربي في مستهل مهمته، أصر هذا المستشرق إصرارا عجيبا على نفي صفة الهوية العربية عن مناطق عربية مهمة مثل العراق وسوريا ومصر، وزعم أن الجزيرة العربية تنحصر في المنطقة الجغرافية الواقعة جنوبا، أي ما يعرف حاليا بالسعودية والكويت وبقية البلدان وصولا إلى اليمن، واعترض على إطلاق صفة “العربية” على ماعدا ذلك. وبدا لي من العصبية التي رفض فيها عروبة بلاد عربية واسعة، أن للإمر علاقة بالمعتقد الشائع في الغرب منذ القرون الوسطى من أن الأراضي العربية التي تاخمت حدود بيزنطة، وتاخمت حدود فارس ذات يوم، هي أراض إما رومية أو فارسية. وقبل ذلك كانت دهشة “خبير” آخر أكثر اتساعا حين سمعني أشير إلى مصر العربية، وأتبع دهشته باستخفاف لم أجد له تفسيرا سوى أن الرجل كان يعبر عن قناعة راسخة، فمصر الراهنة في ذهنه ما تزال هي مصر كما صورها باحثوه وعلماء آثاره، “فرعونية” خالصة منفصلة عما جاورها، حتى بعد مرور ما يقارب 1400 عام على استردادها هويتها العربية، شأنها في ذلك شأن بلدان شرقي المتوسط العربية. بل وحتى بعد بحوث مستفيضة قام بها علماء أجلاء مثل د. عبد العزيز صالح ود. عبد المحسن بكير ود. علي فهمي خشيم، في لغة وحضارة وادي النيل القديمة.
ليس من المناسب هنا الدخول في التفاصيل اللغوية والحضارية المتعلقة بهوية مصر العربية. الهدف الآن تثبيت هوية جزيرة العرب كما عرفت قديما وكما تثبت الوقائع التاريخية، ونفي صفة أنها مجرد شبه جزيرة كما هو شائع عنها. أما توسع الهوية جغرافيا وسكانيا لتشمل إطارا حضاريا أوسع أصبحنا على بينة منه الآن، فيحتاج إلى مقال آخر.
كان ذلك المستشرق الذي أشرت اليه مصرا إذن على إقناعي أنا ابن المنطقة بنظريته. ومن دون الدخول في تحليل نياته، أرجعته فورا إلى الجغرافيين العرب، وقلت له: “هل نأخذ تفاصيل شعاب مكة من أصحابها أم من طارئ نظر اليها من على ظهر سفينته وهو يقف وراء مدفعه”؟
إذن لنرجع إلى “الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني” (من القرن العاشر الميلادي) وكتابه “صفة جزيرة العرب” وسنجد الخبر اليقين.
يقول الهمداني واصفا جزيرتنا، وليس شبه الجزيرة: “.. وإنما سُميت بلاد العرب الجزيرة لإحاطة البحار والأنهار بها من أقطارها وأطرارها، وصاروا منها في مثل الجزيرة من جزائر البحر، وذلك أن الفرات القافل الراجع من بلاد الروم يظهر بناحية قنسرين ثم انحط على الجزيرة وسواد العراق، حتى دفع في البحر من ناحية البصرة والأبلة وامتد إلى عبادان وأخذ البحر من ذلك الموضع مغربا مطيفا ببلاد العرب، منعطفا عليها، فأتى على سفوان وكاظمة ونفذ إلى القطيف وهجر وأسياف البحرين وقطر وعمان والشحر، ومال منه عنق إلى حضرموت وناحية أبين وعدن ودهلك، واستطال ذلك العنق فطعن في تهائم اليمن بلاد فرسان وحكم والأشعريين وعكّ ومضى إلى جدة ساحل مكة والجار ساحل المدينة وساحل الطور وخليج أيلة وساحل راية، كورة من كور مصر البحرية، حتى بلغ قلزم مصر وخالط بلادها وأقبل النيل من غربي هذا العنق من أعلى بلاد السودان مستطيلا معارضا للبحر معه حتى دفع في بحر مصر والشام، ثم أقبل ذلك البحر من مصر حتى بلغ بلاد فلسطين فمر بعسقلان وسواحلها، وأتى على صور ساحل الأردن وعلى بيروت وذواتها من سواحل دمشق، ثم نفذ إلى سواحل حمص وسواحب قنسرين، حتى خالط الناحية التي أقبل منها الفرات منحطا على أطراف قنسرين والجزيرة إلى سواد العراق. فصارت بلاد العرب من هذه الجزيرة التي نزلوا بها وتوالدوا فيها على خمسة أقسام.. (ص 57-58- تحقيق محمد الحوالي، دار اليمامة، 1977).
لم يكن الهمداني في تتبعه لجغرافية جزيرة العرب وحيدا في هذا المضمار، بل اتفق معه آخرون مثل “ياقوت الحموي” و “ابن حوقل”، مما يدل على أن هذه المعرفة كانت من بدهيات الفكر الجغرافي العربي، ولا تصادفنا كلمة “شبه الجزيرة” الشائعة الآن عند أي جغرافي عربي. وقد سبق أبو بكر أحمد إبن إبراهيم الملقب بابن الفقيه من القرن التاسع الميلادي، الهمداني في تحديد جغرافية الجزيرة، فيرى أن مجرى الفرات الأسفل يشكل حدّها الشمالي الشرقي، وشواطئ فلسطين على البحر الأبيض المتوسط تشكل حدها الشمالي الغربي، أي أن باديتي العراق والشام كانتا من الجزيرة. وينسب الباحث “برهان الدين دلو” إلى المستعرب السوفييتي المعاصر “ي. أ. بلياييف” يقينه أن بادية الشام كانت، في عصر ما قبل الإسلام، جزءا من الجزيرة العربية، وأن الحدود السياسية بين الامبراطوريتين البيزنطية والفارسية، في القرنين الخامس والسادس الميلاديين، كانت مرسومة على نحو يبقي بادية الشام في حوزة سكانها العرب الأصليين.
ونصادف تبعا لذلك إنكارا لأي وجود عربي ذي أهمية قبل ظهور الإسلام. فحتى حين تم التنقيب في أرجاء متفرقة من الجزيرة العربية، واكتشاف آثار مدن ساحل الخليج العربي وساحل ظفار، نسب المنقبون هذه الآثار لأناس من بلاد أخرى وفدوا على الجزيرة، ولم يكونوا من سكانها، وكأن الأرض العربية كانت خالية من أهلها، وفجأة نبتوا عليها في القرن السابع الميلادي. المهم أن إنكار الهوية العربية ظل قائما حتى بعد اكتشاف أن سواحل الجزيرة العربية الجنوبية والشرقية كانت، حسب الشواهد الأثرية، عقدة مواصلات العالم القديم التي توسطت بين حوضي المحيط الهندي والبحر المتوسط لبضعة ألوف من السنين.
وبالطبع يمكن أن يندهش أي عربي معاصر نشأ على أمثال هذه الأقاويل إذا تتبع خطوط التجارة البحرية التي انشأها العرب مع سواحل الهند وصولا إلى الصين، ومع سواحل إفريقيا الشرقية، وطرق القوافل التي شقت طريقها شمالا وصولا إلى سواحل المتوسط، قبل بداية التاريخ الميلادي بما يقارب الثلاثة آلاف عام. وسيندهش أكثر إذا علم أن آثار التجار اليمنيين من معين وسبأ عثر عليها في الجزر اليونانية.
كل هذا بالطبع يؤكد ما ذهب إليه “صاعد الأندلسي” المولود في أوائل القرن الحادي عشر الميلادي حين وضع كتابه “طبقات الأمم”، فلخص تبعات موقع جزيرة العرب وما يعنيه على الصعيد المعرفي والحضاري بالنسبة لسكانها فقال عن أمة العرب السابعة حسب تصنيفه لطبقات الأمم ما يلي:
“.. أما علمها الذي كانت تفاخر به وتباري فيه، فعلم لسانها وأحكام لغتها ونظم الأشعار وتأليف الخطب. وكانت مع ذلك أهل علم الأخبار ومعدن معرفة السير والأعصار”.. و”ليس يوصل إلى خبر من أخبار العرب والعجم إلا بالعرب ومنهم، وذلك أن من سكن بمكة من العماليق وجرهم وآل السميدع بن هونا وخزاعة أحاطوا بعلم العرب العاربة والفراعين العاتية، وأخبار أهل الكتاب. وكانوا يدخلون البلاد للتجارات فيعرفون أخبار الناس. وكذلك من سكن الحيرة وجاور الأعاجم وأخبارهم وأيام حمير ومسيرها في البلاد، وعنهم صدر أكثر ما رواه عبيد بن شرية ومحمد بن السائب الكلبي والهيثم بن عدي. وكذلك من وقع بالشام من سليم وغسان خبير بأخبار الروم وبني اسرائيل واليونانيين. ومن وقع بالبحرين من تنوخ وأياد، فعنه أتت أخبار وبار وطسم وجديس. ومن وقع من ولد نصر بن الأزد بعمان ومن يليها، فعنه أتى كثير من أخبار ملوك السند والهند وشيء من أخبار فارس. ومن وقع بجانب طيء، فعنه أتت أخبار آل أذينة والجرامقة. ومن كان ساكنا باليمن فإنه أعلم بأخبار الأمم جميعا لأنه كان في دار مملكة حمير وفي ظل الملوك السيارة إلى الشرق والغرب والجنوب والشمال. ولم يكن الملك منهم يغزو إلا عرف البلاد وأهلها..” (ص 118-،120 تحقيق حياة العيد بو علوان، دار الطليعة، بيروت، 1985).
في الوقت الراهن، بدأت تتوافر أدلة من علم الآثار ودراسة اللغات والديانات، تنقض الصور التي أشاعها الباحثون الغربيون عن هوية الجزيرة العربية السكانية والجغرافية والحضارية، إلا أن هذه الصور ما تزال هي الماثلة. فقد يعترف الباحث القادم من بعيد، وحتى وإن لم يكن يجيد العربية، بأن ها هنا بالفعل وجود حضاري قديم، ولكنه يواصل تأكيد إنكاره لهوية هذا الوجود، فيصعب عليه ربطه بهوية عربية، ويفضل أن يطلق عليه تسميات أخرى. وأكثر ما لاحظته خلال المناقشات والمداخلات، أن محو الهوية العربية عن مناطق شاسعة من الوطن العربي تكاد تكون غاية تسعى إليها الدراسات الغربية بلا كلل ولا ملل، إلى درجة أننا بتنا نسمع في هذه الأيام أنه لم يوجد في يوم من الأيام شعب عربي، لا في الماضي ولا في الحاضر!، بل أعراق لاتربطها حتى اللغة. وكل ذلك تحت مزاعم العلم والموضوعية.
ويبدو أن النتيجة المنطقية المرجوة من هكذا “علم” هي تجريد العربي من الهوية الجامعة التي تشد اطراف بلاده إلى بعضها بعضا، واقتلاعه من الأرض التي جاء منها، أي من موروثه الروحي والحضاري الذي يمتد في الزمن إلى عصور حضاراته المتعاقبة بكل تشكلاتها وأسمائها التي اتخذتها، سواء كانت أكدية أو كنعانية أو حميرية أو مصرية.. وصولا إلى حضارته الإسلامية. لهذا السبب، مثلما أنقذتْ المعاجم العربية اللغات العربية القديمة من العتمة واللبس اللذين أحاطتهما بها نزعات غريبة عن البحث العلمي فحولتها إلى لغات “غير عربية”، فإن العودة إلى أمثال الهمداني وصاعد الأندلسي يمكن أن تنقذ الأفهام من اللبس الذي توقعنا فيه المصطلحات الغربية، ومرتادو الشواطئ العربية على ظهور السفن وحاملات الطائرات.
اختزال
لم يكن اختزال جغرافية جزيرة العرب بما يسمى “شبه الجزيرة”، وتقليص مداها وتمويه حقيقة أنها قبل الفتوح الاسلامية كانت من اليمن حتى أعالي الفرات عربية الطابع رغم السيطرة الفارسية فاليونانية فالرومانية على أجزائها الشمالية، إلا جزءا من التصوير الشائع المغلوط، أما التصوير الذي يفوق هذا في مغالطته فقد مثله إنكار أي أهمية تاريخية للعرب وجزيرتهم في مسار التاريخ القديم قبل ظهور الإسلام. فبعد اختزال الجغرافيا، نصادف، وأيضا في الأدبيات الشائعة تلك المزاعم عن عزلة الجزيرة العربية عن محيطها وبداوتها المطلقة، أي عزلتها عن حوض المحيط الهندي وحوض البحر الأبيض المتوسط، بل وحتى عن سواحل إفريقيا الشرقية، وعن أي ملمح حضاري مستقر. بل وإنكارا لهوية بناة السدود العرب في الجنوب وبحارة الخليج بعد أن فقأت الحفريات والمكتشفات عيون المنكرين.
لا إله إلا الله محمد رسول الله
لا إله إلا الله محمد رسول الله
اختي الغاليه سيل الحب
لك شكري على اضافتك الكبيره والكريمه ومرورك الرائع
حقيقه ما قلته اثلج الصدر وشد الهمه
لا حرمت مرورك العاطر
تقبلي شكري وعنفوان تقديري
الخالد