يا إخوتاه، ألا تبكون شوقا إلى الله. ألا وإن من بكى شوقا إلى الله، لم يحرم من النظر غدا إلى الله إذا تجلى بالرحمة، واطّلع بالمغفرة، واشتدّ غضبه على العاصين.
يا إخوتاه، إلا تبكون من عطش يوم القيامة؟ يوم يحشر الخلائق وقد ذبلت شفاههم، ولم يجدوا ماء إلا حوض المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيشرب قوم، ويمنع آخرون. ألا
وإنّ من بكى من خوف عطش ذلك اليوم سقاه الله من عيون الفردوس.
قال: ثم نادى الحسن رضي الله عنه: واذلاه إذا لم يرو عطشي يوم القيامة من حوض النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم بكى وجعل يقول: والله لقد مررت ذات يوم بامرأة من المتعبدات، وهي تقول: الهي، قد سئمت الحياة شوقا ورجاء فيك. فقلت لها: يا هذه، أتراك على يقين من عملك؟ فقالت: حبي فيه وحرصي على لقائه بسطني. أتراه يعذبني وأنا أحب؟.
فبينما أنا كذلك أخاطبها، إذ مرّ بي صبيّ صغير من بعض أهلي، فأخذته في ذراعي، وضممته إلى صدري، ثم قبلته. فقالت لي: أتحب هذا الصبي؟ قلت: نعم. قال: فبكت، وقالت: لو يعلم الله الخلائق ما يستقبلون غدا، ما قرّت أعينهم، ولا التذّت قلوبهم بشيء من الدنيا أبدا.
قال: فبينما أنا كذلك، إذ أقبل لها ولد يقال له: "ضيغم"، فقالت: يا ضيغم، أتراني أراك غدا يوم القيامة في المحشر أو يحال بيني وبينك؟ قال: فصاح الصبي صيحة ظننت أنه قد انشق قلبه، ثم خرّ مغشيّا عليه، فجعلت تبكي عليه، وبكيت لبكائها.
فلما أفاق من غشيته، قالت له: يا ضيغم، قال لها لبيك يا أماه. قالت: أتحب الموت؟ قال: نعم. قالت: ولم يا بنيّ؟ قال لها: لأصير إلى ما هو خير منك، وهو أرحم الراحمين، إلى من غذاني في ظلمة أحشائك، وأخرجني من أضيق المسالك، ولو شاء لأماتني عند الخروج من ضيق ذلك المسلك حتى تموتي أنت من شدة أوجاعك، لكنه برحمته ولطفه، سهّل ذلك عليّ وعليك. أما سمعتيه عز وجل يقول: {نَبِّئْ عِبَادِي إني أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} الحجر . وجعل يبكي وينادي: أواه أواه، إن لم أنج غدا من عذاب الله، ولم يزل يبكي حتى غشي عليه، وسقط على الأرض، فدنت منه أمه، فلمسته بيدها، فإذا هو ميّت
رحمه الله. فجعلت تبكي وتقول: يا ضيغماه، يا قتيلا في حبّ مولاه. ولم تزل كذلك حتى صاحت صيحة عظيمة، ووقعت في الأرض، قال: فحرّكتها، فإذا هي قد ماتت. رحمة الله عليه وعليها، ورحمنا الله بهما.