ما هي الاسطورة ؟ إنني أعرف جيداً ما هي ، بشرط ألا يسألني أحد عنها ، ولكن إذا ما سئلت ، وأردت الجواب ، فسوف يعتريني التلكؤ . هذا ما كتبه سنت أوغسطين في ( اعترافات )
هناك من الاشياء ما لا تؤديه الصفة المباشرة ، فحين سئل إسحق الموصلي عن النغم قال : ( إن من الاشياء أشياء تحيط بها المعرفة ولا يدركها الوصف ) .فنحن نعرف جميعا ما الضوء ولكن ليس من السهل أن نقول ما هو. فلذا قال يونغ – وهو أحد تلامذة فرويد – إن كل المحاولات ألتي بذلت لتفسير الاسطورة ، لم تساهم في فهمها ، بل على العكس زادت في الابتعاد عن جوهرها ، وزادت حيرتنا نحوها . فالاسطورة ممتنعة عن الادراك بوصفها متاهة عظمى .
إننا يجب أن ننتبه الى الفروق الدقيقة بين محاولة تعريف وتحديد الاسطورة وبين تفسيرها . فالمتاهة حاصلة في الخلط بين التعريف والتفسير في كثير من الابحاث .
إن زئبقية تعريف الاسطورة ناشئة من عدة أسباب ، هي :
1-الاساطير متنوعة في مواضيعها ، فهناك من يرى أنواعها خمسة هي :
أ- الاسطورة الطقوسية : وهي تمثل الجانب الكلامي لطقوس الافعال ألتي من شأنها أن تحفظ للمجتمع رخاءه .
ب-اسطورة التكوين : وهي التـي تصور لنا عملية خلق الكون .
ج- الاسطورة التعليلية : وهي ألتي يحاول الانسان البدائي عن طريقها ، أن يعلل ظاهرة تستدعي نظره ، ولكنه لا يجد لها تفسيراً ، ومن ثم فهو يخلق حكاية أسطورية ، تشرح سر وجود هذه الظاهرة .
د- الاسطورة الرمزية : وهي ألتي تتضمن رموزاً تتطلب التفسير ، ومن المؤكد أن هذه الاساطير قد ألفت في مرحلة فكرية أكثر نضجاً ورقياً .
هـ- أسطورة البطل الاله : وهي التي يتميز فيها البطل بانه مزيج من الانسان والاله ، (ألبطل المؤله ) ألذي يحاول بما لديه من صفات إلهية أن يصل الى مصاف الالهة ، ولكن صفاته الانسانية دائماً تشده الى العالم الارضي .
بينما نجد الدكتور : أحمد كمال زكي يقسمها الى أربعة أنواع هي :
أ- الاسطورة الطقوسية
ب- الاسطورة التعليلية
ج- الاسطورة الرمزية
د- التاريخسطورة ، وهي تاريخ وخرافة معاً
هذه التقسيمات تتناول الاسطورة قديما ، فنحن الآن في هذا العصر نمتلك نوعاً جديداً من الاساطير ، ذلك هو الاسطورة السياسية ، التي لعبت وتلعب دوراً في صناعة الايديولوجيات ألتي تخدم أغراضها ، بخلقها الوعي الزائف ، باعتمادها على الظلال السحرية للكلمة ، وهذا ما سنفصل ألقول فيه لاحقاً .
إن تنوع الاساطير ، يؤدي حتماً الى تنوع تعاريفها ، لان كل تعريف يتأثر بنوع الاسطورة ، أو بنوعين أو ثلاثة أنواع ، ولذا يبقى التعريف قاصراً عن أن يكون جامعاً مانعاً .
2- إن تنوع الاساطير أدى الى تنوع المناهج التي تتناول الاساطير بالدراسة ، فلذا ظهرت المناهج التالية :
أ- المنهج اليوهيمري الذي يعد من أقدم تلك المناهج ، ويرى الاسطورة قصة لامجاد أبطال وفضلاء غابرين .
ب-المنهج الطبيعي ألذي يعتبر أبطال الاساطير ظواهر طبيعية ، ثم تشخيصها في أسطورة ، أعتبرت بعد ذلك قصة لشخصيات مقدسة .
ج-المنهج المجازي بمعنى أن الاسطورة قصة مجازية ، تخفي أعمق معاني الثقافة .
د-المنهج الرمزي بمعنى أن الاسطورة قصة رمزية ، تعبر عن فلسفة كاملة لعصرها ، لذلك يجب دراسة العصور نفسها لفك رموز الاسطورة .
هـ-المنهج العقلي ألذي يذهب الى نشوء الاسطورة نتيجة سوء فهم إرتكبه أفراد في تفسيرهم ، أو قراءتهم أو سردهم لرواية أو حادث .
و-منهج التحليل النفسي الذي يحتسب الاسطورة رموزاً لرغبات غريزية وإنفعالات نفسية .
وإن علم الميثولوجيا ، حتى الآن ، لم يصل الى مرحلة النضج التي تؤهل مدارسه المتنافرة ، المتعارضة للاندماج.
3- إن للاسطورة جوانب متعددة ومتنوعة ، فهي إن صح التعبير – كما وصفها البعض أنها متاهة عظمى ، فلذا نجد الكثير ينطلق في تعريفه متأثراً بجانب أو عدة جوانب منها فتبدو التعريفات قاصرة ، وقد نجد العكس حيث يلجأ البعض الى تعابير فضفاضة تمتاز بالتعمية والمطاطية الى حد يفقدها الدقة والتشخيص والتمييز .
4- إن للاسطورة خاصية الشعر الذي يكاد يظل عصيا على أي وصف محدد ، (ولعل صعوبة الحد والتعريف كامنةفي المطلق الذي تنزع اليه الاسطورة أو الذي ينزع اليه الانسان من خلال الاسطورة ، كما قد يكمن في كونها على حد تعبير بعضهم نظاما رمزياً ، وفي أن المنهج أو المنظور الذي يتعين النظر اليه منها لا ينبغي أن يكون جزئياً انتقائياً حيال هذه الحقيقة الثقافية المعقدة ) .ناهيك عن اننا لم نمر بتجربة الاسطورة مروراً مباشراً ، عدا بعض منها ، وهو بعض مشوش الاصل ، متلون الشكل ، غامض المعنى ، والظاهر أنها على الرغم من امتناعها على التفسير العقلاني ، تستدعي البحث العقلاني الذي تعزى اليه شتى التفسيرات المتضاربة ، والتي ليس فيها ، على كل حال ، ما يستطيع تفسير الاسطورة تفسيراً شافياً .
5- إن القدماء انفسهم لم يعملوا على تمييز النص الاسطوري عن غيره، ولاهم دعوه باسم خاص يساعدنا على تمييزه بوضوح بين ركام ما تركوه لنا من حكايا وأناشيد وصلوات وما اليها . ففي بيوت الالواح السومرية والبابلية ، نجد أن النصوص الاسطورية مبعثرة بين البقية . ثم أن عنوان الاسطورة غالباً ما كان يتخذ من سطره الافتتاحي الاول ، شأنه في ذلك شأن بقية النصوص الطقسية أو الملحمية أوالادبية البحتة .وهذا ما حدث في التراث الاغريقي كذلك .
6- إشتراك أجناس أدبية أخرى مع الاسطورة في بعض عناصرها ، مثل الخرافة ، اللامنطق ، اللامعقول ، اللازمكان في بعض الاحيان ، فلذا أرى من الضرورة بمكان ، أن نحاول التوصل الى ايجاد معايير ، يمكن أن نفرق بها بين الاسطورة و تلك الاجناس ، قبل الشروع في محاولة لصياغة تعريفات تختص بالاسطورة دون غيرها . فالخرافة هي الحديث المستملح المكذوب ، وقالوا حديث خرافة ، ذكر إبن الكلبي قولهم حديث خرافة ، أن خرافة رجل من بني عذرة ، أو من جهينة ، إختطفته الجن ، ثم رجع الى قومه ، فكان يحدث باحاديث مما رأى يعجب منها الناس فكذبوه ، فجرى على السن الناس ، وروى عن النبي (ص) أنه قال (وخرافة حق ) وفي حديث عائشة قال لها حدثيني ، قالت ما أحدثك حديث خرافة والراء فيه مخففة ولا تدخله الالف واللام لانه [ أسم خرافة ] معرفة ، وتوضع أل [ الخرافة أو الخرافات ] إذا أرادوا الخرافات الموضوعة من حديث الليل ، أجروه على كل ما يكذبونه من الاحاديث وعلى كل ما يستملح ويتعجب منه وراوي الخرافة والمستمع اليها على حد سواء يعرفان منذ البداية ، أنها تقص أحداثاً ، لا تلزم أحداً بتصديقها ، أو الايمان برسالتها.وهي تختلف عن الاساطير في أن الخرافة تناقلها الناس بلغتهم الدارجة ، في الوقت الذي إحتفظت فيها الاساطير بلغة فصيحة . كما أن الاسطورة ترجع الى ما قبل الاديان ، أما الخرافة فقد ظهرت بعد الوثنية ، ولذا يغلب عليها الطابع التعليمي والتهذيبي والبطل في الحكاية الخرافية يكون نموذجاً متخيلاً بعيداً عن الواقع الى درجة لا يصلح لأن يكون مثالاً يحتذى به على أي صعيد . فالمزج الصبياني بين اللامعقول و الواقع، يتميز في الجني الذي لا يعرف من أي مكان يأتي عندما يفرك علاء الدين المصباح ، وبعد أن ينهي مهمته ، يرجع ولكن لا يعرف الى أين ويقصد بها الامتاع والمؤانسة . ولكنها ذات بنية معقدة ، فهي تسير في إتجاهات متداخلة ، ولا تتقيد بزمان حقيقي أو مكان حقيقي.
أما الحكاية البطولية ، فهي تتسم ببعض ما تتسم به الخرافة من إغراق في الخيال ، وبعدها عن الواقع ، الا أن لها أصلاً في الحقيقة الموضوعية ، ضخّم وبولغ فيه ، وعمل الخيال البشري الخلاق عمله ، غير انه خال من طابع الجد والقداسة ، فهي قصص دنيوية وغير مقدسة ، ومحددة تحديداً زمانياً ومكانياً ، وهو ما يبرر قيام الباحث ، بالعملية العكسية ، أي الصعود من الادب الى الاسطورة .
وان البطل فيها ، ولما يملك من القوة الخارقة ولما يقوم به من تصرفات فروسية ، يشكل صورة مثالية عن الانسان ، وعن ما هو إنساني ، يستثير الرغبة في السامع الى تحقيق هذه الصورة المثالية.
وهناك الحكاية الشعبية التي يميزها هاجسها الاجتماعي بشكل رئيسي عن الحكاية الخرافية والحكاية البطولية ، فموضوعاتها تكاد تقتصر على مسائل العلاقات الاجتماعية والاسرية منها خاصة ، مثل زوجة الاب وحقدها ، وغيرة الاخوات في الاسرة من البنت الصغرى التي تكاد تكون في العادة الاجمل والاحب…الخ.
والحكاية الشعبية واقعية الى أبعد حد وتخلو من التأملات الفلسفية والميتافيزيقية ، مركزة على أدق التفاصيل وهموم الحياة اليومية ، وهي رغم استخدامها لعناصر التشويق ، الا أنها لا تقصد الى إبهار السامع بالاجواء الغريبة ، أو الاعمال المستحيلة ، ويبقى أبطالها أقرب الى الناس العاديين الذين نصادفهم في سعينا اليومي ، وأن البطل فيها يلجأ الى الحيلة والفطنة والشطارة للخروج من المأزق.
إن استخدام العناصر الخيالية – في بعض الاحيان – يهدف الى التشويق والاثارة . أما بنيتها فتمتاز بالبساطة ، فهي تسير في إتجاه خطي واحد وتحافظ على تسلسل منطقي ، ينساب في زمان ومكان حقيقي ، ولها رسالة تعليمية ، تهذيبية ، وذلك مثل جزاء الخيانة ، فضل الاحسان ، مضار الحسد000الخ .
ومن خلال ما تقدم ذكره ، نستطيع أن نضع أيدينا على بعض خصائص الاسطورة ، على نحو يميزها عن غيرها من الاجناس القريبة منها ، تمهيداً للأقتراب من تعريفها على نحو يساعدنا على إدراكها .
فالاسطورة – لحد هذه اللحظة من البحث – يمكن أن نقول إنها :
1- تكتب أو تنقل مشافهة باللغة الفصحى .
2- خطاب الجد والحقيقة ، وليست أحاديث للامتاع والمؤانسة .
3- مقدسة ، تمتلك قوة الاعتقاد الملزم للمجتمع قبل ظهور الاديان .
4- تصدر عن تأملات وإنفعالات وخيالات جمعية ، لا فردية .
5- تتناول موضوعات إنسانية كبرىوشاملة، تخص جدل الانسان مع نفسه ، ومع ما يحيط به .
وحين نزعم تعريف الاسطورة – هذه المتاهة العظمى – ينبغي أن ندرك إستحالة حصولنا على تعريف كامل وشامل ، وإنما تكمن محاولتنا في الوصول الى أقرب نقطة منها ، فلذا نحرص على أن ندرك الاسطورة قبل تعريفها ، ولذا نتدرج من الشكل الى المضمون مع التأكيد على أن إتحاد هذين الجانبين ، وتفاعلهما تفاعلاً جدياً ، ينتج عنهما نمط من أنماط التعبير يطلق عليه اسم الاسطورة .
فمن حيث الشكل وردت المصطلحات التالية :
أ-الاسطورة : حكاية ، قصة ، رواية. وقد إتفقت غالبية المصادرعلى هذه التسميات .
ب-الاسطورة : حادث ، حادثة ، أحداث ، خبر ، أخبار ، وعاء ، وقد وردت هذه التسميات في بعض المصادر.
ج-الاسطورة : شكل من أشكال التعبير ( نسيج وحده ) رحمه المولد له الفكر والخيال والوجدان ، وأداته الرمز ، وان الشكل السردي أحد أشكال الاسطورة لا غير .وأن لغتها ( نسيج وحدها ) ولا سبيل الى التعبير عما تعبر عنه بسواه ، تماماً كالشعر ، لا يمكن نقله من صورته التي هو عليها وترجمته ، والاَ حصل ما حصل للشعر المترجم من تفكك نظمه ، وبطل وزنه ، وسقط موضع التعجب منه على حد تعبير الجاحظ . وهذا رأي إنفرد به الدكتور محمد عجينه مخالفاً رأي كلود ليفي ستروس الذي يجد قيمة الاسطورة تظل قائمة رغم أسوأ أنواع الترجمة في كل أنحاء العالم ، لان كنه الاسطورة لا يكمن في أسلوب صياغتها ، ولا نمط سردها ، ولا في تركيبها النحوي ، بل في التاريخ الذي ترويه .
وإختلف الباحثون في الصفات التي تطلق على ما ورد في الفقرة أ والفقرة ب. فقد وردت الصفات المتنوعة التالية :
(( مقدسة ، تقليدية ، خرافية ، ملفقة ، حقيقية ، تاريخية ، تعليلية ، تكفيلية ، متداولة ، بدائية ، صبيانية ، رمزية ، مجازية ، لعب مجانية ، مبالغ فيها ، إنفعالية ، غير عقلانية ، جمعية ، مدهشة ، مجهولة المؤلف غير منطقية ، لا زمكانية ، لا شعورية ، واعية ، لا واعية .))
وعلى سبيل المثال لا الحصر ، نذكر بعض التعاريف التي تحتوي مثل هذه الصفات ، لغرض المراجعة لمن شاء ، ولمساعدة أنفسنا في الاقتراب من الاسطورة ، فمثلاً :
يقول الباحث الفرنسي كلود ليفي ستراوس : (( الاسطورة : حكاية تقليدية ، تلعب الكائنات الماورائية أدوارها الرئيسية )).
وفي الموسوعة العربية العالمية ، نجد أن الاسطورة : حكاية تقليدية تروي أحداثاً خارقة للعادة .
يقول بول ريكو : الاسطورة : حكاية تقليدية ، تروي وقائع حدثت في بداية الزمان ، متفقاً مع الفيلسوف الفرنسي جيلبار دوران الذي يعرفها بأنها (( نظم لوقائع رمزية في مجرى الزمان )) .
يعرف مرسيا إلياد الاسطورة بأنها (( قصة مقدسة تروي حدثاً وقع في بداية الزمان )) .
والاسطورة حكاية مقدسة ، ذات مضمون عميق يشف عن معاني ذات صلة بالكون والوجود وحياة الانسان. (28) كما يرى السواح .وانها سجل أفعال الالهة ، تلك الافعال التي أخرجت الكون من لجة العماء ، ووطدت نظام كل شيء قائم ، ووضعت صيغة أولى لكل الامور الجارية في عالم البشر .
ويرى شلهود أنها قصة تعليلية ، ويرى آخرون أنها قصة حقيقية ، جرت في بداية الزمان ، وتصلح إنموذجاً يمكن أن يحتذى به من قبل البشر في سلوكهم .
ويرى الناقد السوري ، خلدون شمعة أن الاسطورة : قصة متداولة أو خرافية ، تتعلق بكائن خارق أو حادثة غير عادية . فهي قصة مخترعة أو ملفقة .
ومنهم من يرى الاسطورة : قصة مجازية تخفي أعمق المعاني أو أنها قصة رمزية تعبر عن فلسفة كاملة لعصرها.
ويرى الدكتور محمد فتوح أحمد نفسه متفقاً مع مؤلفي كتاب (( نظرية الادب )) ( رينيه ويليك و أوستن وارين ) في أن الاسطورة : حكاية مجهولة المؤلف تتحدث عن الاصل والعلة والقدر ، ويفسر بها المجتمع ظواهر الكون والانسان تفسيراً ، لا يخلو من نزعة تربوية تعليمية .
ويرى الدكتور قيس مؤلف كتاب ( الاساطير وعلم الاجناس ) أن الاسطورة : ليست سجلاً تاريخياً مظبوطاً للاحداث الجارية عبر ماضي الجماعات ، بل هي تمثل تاريخاً قبلياً ، تتوارثه الاجيال المتعاقبة عن طريق التلقين .
ويصف الدكتور عبد الرضا علي الاسطورة بأنها : الوعاء الاشمل الذي فسر فيه البدائي وجوده ، وعلل فيه نظرته الى الكون ، محدداً علاقته بالطبيعة ، من خلال علاقته بالآلهة التي اعتبرها القوة المسيرة والمنظمة والمسيطرة على جميع الظواهر الطبيعية ، وتعاقب الفصول ، والليل والنهار ، والخصب والجفاف ، مازجاً فيها السحري بالديني ، وصولاً الى تطمين نفسه ووضع حد لقلقه و أسئلته الكثيرة .إنها أسلوب لشرح معنى الحياة والوجود صيغ بمنطق عاطفي كاد يخلو من المسببات ، إمتزج فيها الدين بالتاريخ ، والعلم بالخيال ، والحلم بالواقع .
ويرى K.O.MULLER أن الاسطورة : أحاديث مصورة لأحداث تاريخية حقيقية واقعية .
ويرى ب كوملان أن الاساطير هي في الحقيقة مجموعة من الاكاذيب ولكنها اكاذيب كانت لقرون طويلة حقائق يؤمن بها الناس .
وفي قاموس اللاروس ، وردت الاسطورة أنها خبر تاريخي أو حكاية تاريخية بالغت فيها المخيلة الشعبية أو الابتكار الشعري .
ومن وراء هذا الاستعراض ، نكتشف إتجاهين ، لكل إتجاه خصائصه ، فاذا أخذنا بالمنهج العقلي الذي يرى أن الآلهة كانت في أصلها ، طائفة من الملوك ، بلغوا من القوة والتأثير شأواً عظيماً ، جعل الناس يتجاوزون بهم عالم الواقع الى عالم الخوارق ، ويؤلهونهم ، فان هذا الاتجاه يجعل من الاساطير واقعاً تاريخياً ، أو لعل الاصح أن يقال : إن الاساطير قد أصبح لها بفضل هذا الاتجاه واقع فيما قبل التاريخ ، وأخذت الاساطير منذ ذلك ، تمثل ذاكرة الانسانية عندما تستدعي مرحلة بلغ من بعدها في الزمان ؛ أن إكتنفها الغموض من كل جانب . وأعان ذلك الخيال على تصوير الملوك تصويراً خارقاً في عصور سحيقة ، غلبت عليه البداوة . وهذا هو رأي يوهوميروس الذي مات في أوائل القرن الرابع قبل الميلاد .
وهناك رأي مناقض لهذا ، ولكنه في نفس الاتجاه التاريخي ، ومضمونه : أن البشر الاولين إذ صعقتهم ظواهر الطبيعة ، بدأوا يعطونها أسماء انتقلت تدريجياً الى أشخاص ، على إعتبار الفكر البدائي ، عاجز عن تشخيص المجردات وهكذا صارت الحياة الكونية تكتسب حياة .
وكان البطل الاسطوري إلها أو إبن إله أو شبه إله ، وهذا يدل على أن أدوات الانسان التقنية كانت قاصرة ، وغير مؤدية للغرض ، مما أضطر الانسان الى أن يصوغ نموذجه البطولي على غرار الآلهة المقتدرين ، الذين يمكنهم التحكم في هذا العالم فقد صورت الآلهة من خلال سمات انسانية بحتة .
فالاغريق لم يؤمنوا بأن الآلهة خلقت الكون ، بل على الضد ، فالكون هو الذي خلق الآلهة .
إن هذا الاتجاه بشقيه المتضادين ، يحصر الاسطورة في اهتمامها بظواهر الطبيعة ، التي حاول الانسان أن يفهمها ويسيطر عليها عن طريق الاسترضاء أو التحدي ، وعند عجزه ، حاول أن ينسجم معها قدر الامكان
أما الصفات الاخرى ، فقد حولت الاسطورة الى نظرة الانسان الفلسفية والجمالية لحياته الاجتماعية التي يعيش واقعها ، بعد فتور إهتمامه بتعليل الظواهر الطبيعية ، بمعنى آخر ، أصبحت الاسطورة حاجة روحية لا غناء للانسان عنها ، ففيها تظهر إنفعالاته الشعورية واللاشعورية ، تأملاته في المستقبل أو ما ينبغي أن تكون عليه الحياة الافضل ،خيالاته التي تحقق ما يعجز عن تحقيقه في الواقع ، آماله ، توقه الابدي الى الجديد ، محاولته الجدية للتخلص من فرديته ، أي أنها أصبحت فناً وضرورة له ، ليفهم الحياة ، بل ليجعلها أكثر إنسانية ،
وقد ظهر هذا في أواخر القرن الرابع ق.م ، حين دخلت البشرية في أخطر تجربة وإمتحان ، ولا تزال تعانيهما ، بانتقالها الى طور الحضارة الناضجة ، وقد تحقق ذلك لاول مرة في تاريخ الانسان بانتقال وادي الرافدين ووادي النيل ، الى حياة التحضر والمدنية ، كظهور المدن وأنظمة الحكم والكتابة والتدوين والقوانين المنظمة للحياة .
والاهم من ذلك ، أن هذا التحول في الاسطورة ، لم يكن مرحلياً وإنما اكتسب صفة الديمومة حتى يومنا هذا ، وستبقى الاسطورة حاجة روحية ، وضرورة موضوعية للانسان كالشعر في القرون القادمة . فما دام هذا الانسان على وجه البسيطة ، فانه يحتاج الى هذا الفن ، لاسباب مختلفة .
والاسطورة والشعر توأم ، وعودة الشعر اليها ، إنما هو حنين الشعر الى ترب طفولته .وسنفصل القول في ضرورة الاسطورة وتأثيرها السحري لاحقاً .
ويرى ستراوس أنه إذا شئنا أن نعرب عن المواصفات المخصوصة والتي يختص بها الفكر الاسطوري ، علينا أن نعتبر الاسطورة تقع في داخل الكلام وخارجه في آن معاً .وربما احتاج هذا التعبير الى ايضاح على النحو التالي: أللغة تنتمي الى مجال الزمن القابل للاسترجاع Retrospectif لانها نظام ، ويمكن النظر في أي نظام ، يصرف النظر عن الزمن ، بينما ينتمي الكلام الملفوظ الى زمن غير قابل للاسترجاع .أما الاسطورة فتجمع بينهما ، وتتميز علاوة على ذلك ، بأنها قد تتعلق إيضأ بالمستقبل، لانها تقص دوما قصة ، وقعت احداثها في الماضي ، ولها في آن واحد امتداد الى الحاضر ، وارتباط بالمستقبل ، فحقيقتها إذن آنية وزمانية ولاتاريخية او سرمدية .
يقول ميشلية ، وهومفكر سياسي ومؤرخ في الوقت نفسه.عن يوم الثورة الفرنسيه :في ذلك اليوم بات كل شيء ممكنا ، صار المستقبل حاضرا، أي أنه يعد ثمة زمان ، ومضة من ومضات الخلود . إن هذه البنية المزدوجة التي هي تاريخية وخارج التاريخ في آن معا ، تفسر كيف أن الاسطورة باستطاعتها أن تنتمي في الوقت نفسه الى حقل الحكي والى حقل اللغة، وفضلا عن إتصافها على صعيد ثالث بصفة الشيء المطلق.
وتعتمد الاسطورة في تقنياتها على إستخدام الظلال السحرية للكلمة فالكلمات في أية لغة ذات وجهين ، وجه دلالي يرتبط بالمعاني المباشرة للمسميات ، ووجه آخر سحري ، متلون بظلال متدرجة بين الخفاء والوضوح ، قادرة علي الايحاء بمعان مباشرة ، واستثارة مشاعر وأهواء كثيرة . فكلمة شمس على سبيل المثال ، تدل على الجرم السماوي المضيء ، ولكنها في الوقت نفسه ، تعكس في النفس معاني اخرى . فهي الوضوح ، وهي الانتظام ، وهي الصحو والعقل ، وهي الحقيقة .
وعن طريق الاسطورة ، اكتشف الانسان نوعاً جديداً من التعبير ، هو التعبير الرمزي ، ويعد هذا التعبير الرمزي عاملاً مشتركاً في كل الافعال الحضارية ، أي في الاسطورة ، والشعر ، واللغة والفن والدين والعلم . وتتميز هذه الافعال باختلافاتها الكثيرة وإن كانت تحقق مهمة واحدة ، وهذه هي الموضعة Objectification . فنحن نموضع مدركاتنا الحسية في كلمات اللغة ، وتتخذ مدركاتنا الحسية ، بتأثير التعبير اللغوي ذاته ، صورة جديدة ، تختفي فيها صور المعطيات المنعزلة ، وتتنازل عن طابعها الفردي . فنحن لا نصادف في الفكر الاسطوري والخيال الاسطوري إعترافات شخصية ، إذ تعني الاسطورة بموضعة تجربة الانسان الاجتماعية ، وليس تجربته الشخصية .
والاسطورة – كما مر بنا – عرض جماعي ، وقد ذهب دوركهايم الى القول باستحالة قيام أي فرد بوضع أسطورة ، وأن ما يبتدعه أدباء مثل ملفيل وكفكا ليس أسطورة في رأي هايمان ، وإنما تخيل فردي يمثل عملاً رمزياً يوازي الاسطورة ، لانها تعبر عن طقس عام ، فالاسطورة نتاج الشعب كله بدلاً من شاعر واحد . فلذلك كانت الاساطير التي إخترعها إفلاطون قبل هؤلاء ، خارج كتاب ( الجمهورية ) مثل أسطورة أسرى الكهف ، واسطورة إختيار النفس لمصيرها ، واسطورة الحساب بعد الموت ، لشرح وتوصيل أفكاره المجردة ، ولعلمه بما للاسطورة من سيطرة على النفوس ، ومن مقدرة على تثبيت الافكار والمعتقدات ، كما أنه وافق على صناعة اساطير يجري تلقينها للصغار ، وفق خطة مدروسة ، من شأنها تدريب هؤلاء على تلمس فكرة الخير الكامنة وراء العالم هذه الاساطير كانت تفتقد الى خصيصة النمو التلقائي التي تميز الاسطورة ، وتعبيرها عن تجربة جمعية مشتركة . ومثل هذه المحاولات ، تقدم لنا مثالاً شديد الوضوح على صلة المعتقدات بالاساطير ، وضرورة الثانية للاولى بسبب النزوع الطبيعي عند الانسان نحو البيان ، والايمان ، وعزوفهم عن البرهان .
والاساطير الشفهية ، بشكل عام ، تلجأ كل اللجوء الى تكرار المقطع الواحد ، مثنى وثلاث ورباع ، ليجعل بنية الاسطورة بادية للعيان .
إن الجمعية في الاساطير ، مصدر من مصادر قيمتها المعرفية ، وهي سبب مهم في أن يكون التوصل الى رؤية شاملة أو متكاملة أكثر من سواها من أنواع الخطاب ، فضلاً عن أنها أقل عرضة للتزييف .
الاسطورة إجمالاً ، إذ هي من مخبأ الفكر آلت الى حياة لها خاصة في وسط المسافة بين العقل والايمان . ومنها تنبع جميع تأملات اليونان [ الناس ] ومن بعدهم ، تأملات أحفادهم . لقد استخدم صاحب الفكرة كلمة اليونان لان كتابه قد إختص بالميثولوجيا اليونانية ، ولكن هذا لا يمنع أن تنطبق الفكرة على غير اليونان ، فلذا وضعت كلمة [ الناس ] بين قوسين معقوفين ، ليعرف القائل أنها من عندي .
إن الاسطورة ليست واقعا مستقلا ، لكنها تتطور مع الظروف التاريخيه ،
واحياناً تحافظ علىشهادات غير متوقعه حول حالات منسية ، ودول زائله 0هنا
تبدوالاسطوره وسيلة تقص ثمينة .
وللاسطورة مقدرة فائقة على الافصاح عن مكنونات النفس البشرية ، وعن
عالم الافكار المجردة ، تعجزعنها اللغة المحكية ، وذلك لأنها تمتلك لغة خاصة ، بها
قادرة على ترجمة اللامعقول ، واللامفهوم ، الى صورة ناطقة مفعمةبالحياة ،
صارخة بالاحداث .
والاساطير دائمة الهجرة والترحال ، وانها تتلون دوماً بلون الحضارة التي تحل
بها واليها تفد ، حتى ليغدو من الصعب ، بل ولربما من المتعذر ، القطع بصحة
نسبتها الى بلاد بعينها ، وأبرز مثال على ذلك الاساطير اليونانية التي يستشهد
بها دائماً على أنها أساطير ، وكيف أن كثيراً منها مستمد من تراث الشعوب
المجاورة .فأوربا أخذت الافكار الاساسية من أساطير الشرق القديم ،
ومزجتها مع ما كانت تحمله في مواطنها من بذور أسطورية خاصة بتاريخها القديم
.
ويرى ستروس أن في الاسطورة متسعاً لحصول أي شي ، وتتابع الاحداث لا
يخضع لأية قاعدة من قواعد المنطق أو من العلاقات ، ممكنة الحصول . غير أن
هذه الاساطير التي تبدو إعتباطية في ظاهرها ، تخضع لنفس المواصفات ، بل
كثيراً ما نجد فيها نفس التفاصيل ، وذلك في أنحاء مختلفة من العالم . يتساءل
ستروس : فكيف نفهم تشابه الاساطير الى هذا الحد من أقصى الارض الى
أقصاها ؟ يجيب قائلاً : إن حل هذه المفارقة الاساسية التي هي من صلب طبيعة
الاسطورة ، يتوقف بالدرجة الاولى على وعيها .
وفي الاسطورة ، يمتزج البشري والفوق البشري ، وهذا هو السبب الذي
جعل الملحمتين : الالياذة والاوديسة أساطير في المعنى الواسع للكلمة .
ويرى صلاح عبد الصبور أن الاسطورة نزوع الى تجاوز العلاقات ، وردود
الافعال العادية للحياة ، أي أن لها منطقاً يختلف عن المنطق العادي، يعتمد على
استمداد الخيال الطليق ، ولا يخضع للعقل وإن كان لا يجافيه في احتوائه عادة
على منطق العلة والمعلول . فالاسطورة إذن لا معقولة ولكنها ليست منافية للعقل
.
والاسطورة تسجيل للوعي الانساني واللاوعي معاً .
والاسطورة نظام فكري متكامل ، إستوعب قلق الانسان الوجودي .
ويرى سمث أن الاسطورة تستنبط من العادات والشعائر لا بالعكس ، وأن
العادات والتقاليد مستقرة ثابتة ، والاسطورة متحولة ومتغيرة.وفي موقف آخر
يقول سميث نفسه : إن الاسطورة تفسير وتأويل لشعائر دينية ، وهي على
العموم لا تؤلف إلا بعدما تزول أو تضيع الفكرة البدائية التي دعت الى إتخاذ
تلك الشعائر أو التقاليد.
ومن العناصر المهمة في الاسطورة ، أنها تمثل السعي نحو السعادة الذي يجده
الانسان فيها ، وانها بأختصار تعبر عن الاحساس بان في الطبيعة ازدواجية وأن
في الانسان إزدواجية وضديداً لم يجد له حلاً في حياته كما يقول بيريه .
وإذا كان هذا الفصل يهدف الى محاولة الوصول الى أقرب نقطة في الاسطورة
، ويهتم بادراك عناصرها وأشكالها أكثر من تعريفها ، فاني أرى نفسي أقرب الى
رأي الدكتور محمد عجينه من حيث الجوهر ، وإن أضفت هوامش قد تكون
بسيطة فاقول : الاسطورة : نمط من أنماط التعبير ، أو شكل من أشكال التعبير
نسيج وحده ، يمتاز بروح قصصية ، بدأ استجابة لضرورة موضوعية وسيلةً
معرفية ، تعليلية لظواهر الطبيعة لغرض فهمها من قبل الانسان – الذي يرمز
الى المجتمع الانساني – والسيطرة عليها ، وعندما عجز عن ذلك – في قديم
الزمان – سعى الى التآلف معها .
وبعد دخول الانسان مرحلة المدنية ، تحولت الاسطورة الى حاجة روحية له ،
والى نظرة فلسفية الى نفسه والى وجوده الاجتماعي ، معبراً عن إنفعالاته
الشعورية واللاشعورية ، مفجراً الطاقة التخيلية المكتنزة في وعي الجماعة
ولاوعيها ، فامتزج المعقول باللامعقول ، والمنطق باللامنطق ، والزمكان
باللازمكان وذلك محاولةً لفهم الحياة أو لجعلها أكثر إنسانية في حاضره ، مستعيناً
بها ليستشرف المستقبل بالصورة المثلى التي ينبغي أن تكون حياته عليها، وبذا
صارت الاسطورة تمتاز بالاستمرارية الحيوية من الماضي ، وعبر الحاضر الى
المستقبل ، إنه الخط المستقيم للزمن ( البعد الرابع ) كما وصفه آينشتاين ،
وبعبارة أوضح ، تحولت الاسطورة الى فن والى ضرورة ، لا يمكن للانسان
الاستغناء عنها أبداً ، لاسباب متنوعة سوف نطلع عليها في الفصول القادمة
وبخاصة وهي تتناول بجدية موضوعات مصيرية للانسانية .
إن هذه المحاولة المتعبة للاقتراب من تعريف الاسطورة ، لا تعفي القاريء من
متابعة الفصول اللاحقة ، ليدرك مميزات الاسطورة ، وإن عجز عن تعريفها .
ومن المحتمل أن يكتشف مميزات أخرى حين يطلع على أسباب الاسطورة أو
وظيفتها أو سبل استخدامها في الادب والحياة …الخ ، وحينئذٍ ينفعنا باضافاته
وايضاحاته لهذه المتاهة العظمى التي سميت بالاسطورة .