يا عبادَ الله اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله تعالى أوجب عليكم العمل بالقرآن الكريم؛ لأن العمل به هو الغاية الكبرى من إنزاله؛ لقوله سبحانه: { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } فالعمل بالقرآن: هو تصديق أخباره، واتباعِ أحكامه، بفعل جميع ما أمر الله به، وتركِ جميعَ ما نهى الله عنه؛ ولهذا سار السلف الصالح على ذلك رضي الله عنهم، فكانوا يتعلمون القرآن، ويصدقون بأخباره، وبه، وبجميع ما جاء فيه، ويطبقون أحكامه تطبيقاً عن عقيدة راسخةٍ، قال أبو عبد الرحمن السُّلمي رحمه الله حدثنا الذين كانوا يقرؤننا القرآن: عثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما رضي الله عنهم: أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي r عشر آيات لم يتجاوزوها، حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن، والعلم، والعمل جميعاً، وهذا هو الذي عليه مدار السعادة والشقاوة قال الله تعالى: {فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَي وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}.
وفي صحيح البخاري عن سمرة بن جندب t : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مما يكثر أن يقول لأصحابه: ”هل رأى أحدٌ منكم من رؤيا “؟ فيقصّ عليه ما شاء الله أن يقصّ وإنه قال ذات غداة: ”إنه آتاني الليلة آتيان،… وإنهما قالا لي: انطلق وإني انطلقت معهما وإنا أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيتدهده الحجر هاهنا فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إلى الرجل حتى يصحّ رأسُه كما كان ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل به المرة الأول“ قال النبي صلى الله عليه وسلم : ”فقلت سبحان الله ما هذا ؟ فقالا لي انطلق“ فذكر الحديث وفيه: ”أما الرجل الذي أتيت عليه يُثلغ رأسه بالحجر فهو الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة…“ الحديث([1]).
وثبت في صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم : ”القرآنُ حجة لك أو عليك“ ويذكر عن عبد الله بن مسعود t أنه قال: ”القرآن شافع مشفّع فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار“ والمعنى من عمل بما فيه ساقه إلى الجنة، ومن تركه وغفل عنه وأعرض ساقه إلى النار والعياذ بالله.
وثبت في صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب t عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ”إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين“، وقال النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع: >>… تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وسنة نبيه]“ رواه مسلم، والحاكم([2]).
عباد الله اتقوا واعملوا بما في كتاب ربكم سبحانه؛ فإنه كلام الله رب العالمين إله الأولين والآخرين، وهو حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، وهو الذكر المبارك والنور المبين، تكلم الله به حقيقة على الوصف الذي يليق بجلاله وعظمته وألقاه على جبريل الأمين فنـزل به على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ؛ ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين، وهو الذكر الحكيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يملّه الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الرّدِّ، ولا تنقضي عجائبه، من عَلِمَ علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أُجر، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم، ويهدي للتي هي أقوم، وهو هدى للمتقين، وهدى للناس أجمعين، وهو روحٌ وحياةٌ، وموعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى وشفاء ورحمة للمؤمنين، وتبيان لكل شيء، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، محفوظ من التغيير والتبديل، أحكمت آياته وفصلت تذكرة لمن يخشى، ولا يأتي أحد بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، بل ولا بسورة واحدة، وهو آيات بينات في صدور الذين أُتوا العلم، وذكر وقرآن مبين، وقرآنٌ كريمٌ مجيدٌ عظيمٌ واضحٌ مبينٌ لو أُنزل على الجبال الشامخات وكلفت بما فيه لتصدعت من خشية الله تعالى، يهدي إلى الرشد، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراط مستقيم، وهو أحسن الحديث وأصدقه، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهُدى في غيره أضله الله، وهو المخرج من الفتن، وهو وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم
حين قال: ”وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله تعالى، فيه الهُدى والنور، وهو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلالة، فخذوا بكتاب الله، وتمسكوا به“ فحثّ عليه ورغّب فيه ثم قال: ”وأهل بيتي أذكركم لله في أهل بيتي“ ثلاث مرات([3]).
عباد الله اقرأوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرأوا القرآن، فإن الماهر به مع السفرة الكرام البررة، ومن تتعتع في قراءته فله أجران، ومن قرأ حرفاً واحداً فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، اقرأوا القرآن؛ فإنه يُقال لصاحبه يوم القيامة اقرأ وارتقِ ورتّل كما كُنت تُرتّل في الدنيا فإن منـزلتك عند آخر آية تقرأ بها، اقرأوا سورة البقرة وآل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة تحاجان عن أصحابهما، اقرأوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة، اقرأوا القرآن، فإن قراءة آية واحدة بالتدبر خير من الدنيا وما فيها، تدارسوا القرآن في الحلقات؛ تحفكم الملائكة، وتغشاكم الرحمة، وتنـزل عليكم السكينة، ويذكركم الله فيمن عنده، صلّوا بالقرآن؛ فإنه لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وساعاته، وآناء النهار ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وساعاته، وآناء النهار.
عباد الله تعلموا القرآن وعلموه أولادكم؛ فإن خيركم وأفضلكم من تعلم القرآن وعلمه، وعمل بما فيه من الأوامر، وابتعد عما نهى عنه. واعملوا بآداب القراءة تفوزوا بالأجر الكبير: من الإخلاص أثناء التلاوة، والقراءة على طهارة عند مس المصحف، والاستياك قبل القراءة إن تيسر، وتحسين الصوت بقراءة القرآن بالترتيل، وأن لا يقرأ في الأماكن المستقذرة، وأن يستعيذ من الشيطان الرجيم ويبدأ بالبسملة في بداية كل سورة، وأن يسجد للتلاوة إذا مرّ بآية سجدة، وإذا مرّ بآية رحمه سأل الله من فضله، وإذا مرّ بآية عذاب استعاذ بالله تعالى.
عباد الله تدبّروا القرآن عند تلاوته؛ فإنه حياة القلوب وشفاء لما في الصدور، ولا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر، والتفكُّرِ، فإنه يورث المحبة، والشوقِ للقاء الله تعالى، وخوفه ورجائه، والإنابة إليه، والتوكل، والرضا، والتفويض والشكر والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلوب وكمالها، وكذلك يزجر التدبر للقرآن عن جميع الصفات والأفعال المذمومة التي بها فساد القلوب وهلاكها؛ ولو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور التواب الرحيم.
([1]) البخاري، برقم 7047 .
([2]) مسلم برقم 2408 وما بين المعكوفين للحاكم.
([3]) مسلم برقم 2906 .