ومن نظر إلى البصائر نظرا ثاقبا نافذا وجد أن المعاني الصحيحة والقضايا الكونية المتعلقة بالخير والشر ، والنفع والضر ، والمسائل المنوطة بالإنسان في حياته المادية والمعنوية يشترك في العلم بها الناس جميعا عامتهم وخاصتهم ، كبارهم وصغارهم ، من نشأ منهم تحت سقوف الجامعات ، ومن عاش تحت سقوف السموات ، لأن العلم ينبوع يفور من الداخل ، لاسيل يتدفق من الخارج ، ولأن المعلومات كامنة في النفوس كمون النار في الزند والقوة في المادة ، وما وظيفة التعليم الا استثارتها من مكامنها ، وبعثها من مراقدها .
وآية ذلك أنك لاتجد مثلا م أمثال العلماء التي يفخرون بها ويعدونها مظهر حكمتهم ، وآية فلسفتهم ، إلا وترى في ألسنة العامة وشوارد أقوالها وأمثالها مايرادفها ويشاكلها ، كما أنك لاتجد قاعدة من قواعد الحكمة ولا قضية من قضايا الآداب والأخلاق التي نعدها من ذخائر الأسفار ونفائس الأعلاق إلا وهي ملقاة تحت أقدام العامة ، ومذالة بين أيدي الجاهلين والأميين .
وعندي أنه لولا عجز العامة عن بيان مايجول في خواطرهم ويهجس في ضمائرهم من المعلومات على صورة مرتبة منظمة لما خيّل إليهم أنهم يسمعون من الخاصة كلاما عجيبا ، أو معنى غريبا.
وليست هذه الغبطة التي نراها تعلق بنفوسهم عندما يتلقون أحاديث الخاصة من أجل أنهم علموا ما لم يكونوا يعلمون ، او أدركوا ما لاعهد لهم به من قبل ، بل لأنهم عثروا على من يترجم عن أفكارهم ، ويجمع لهم شمل المعاني المبعثرة في أنحاء أدمغتهم ، ولأنهم وجدوا في أنفسهم لذة الأنس بأفكاره تشابه أفكارهم ، وآراء تشاكل آراءهم .
ولااخشى إن قلت أن علم العامة أفضل من علم الخاصة ، لأنه علم خالص من شائبة التكلف والتعمل ، حتى انك لتجد في بعض الأحايين بين معلومات الخاصة ومذاهبهم وآرائهم ما يضحك الثكلى لغرابته وشذوذه وما يترفع أضيق العامة ذهنا وأضعفهم فهما أن يجعل له شأنا ، أو يقيم له وزنا ، ولأنه يعلق بالنفس ويتغلغل بين طياتها تغلغلا تظهر آثاره على الجوارح ، وكثيرا ماتجد بين الجهلاء من تعجبك استقامته ، وبين العلماء من يدهشك اعوجاجه ، وان كان صحيحا ما يقولون من أن العلم ما ينتفع به صاحبه ، فكثير من الجهلاء أعلم من كثير من العلماء .
فلا تبالغ في تقدير فلسفة الفلاسفة وعلم العلماء ، ولاتنظر إليهم نظرا يملأ قلبك رهبة وهيبة ، ولا تغل في احتقار الجهلاء ، وازدراء العامة والضعفاء ، ولاتكم ممن يقضون حياتهم أسرى العناوين وعبيد الألقاب .
و إن في اختفاء الحقائق الكونية وتنكرّها وضلال هذا العالم في مذاهبه ومراميه وتفرقه مذاهب وشيعا وركوب كل فريق رأسه وهيامه على وجهه ووقوف طلاب الحقيقة في كل دهر وعصر في مفارق الطرق ورؤوس المسالك حيارى ينشدون فلا يجدون ، ويجدّون فلا يصلون ، دليلا على أن الفلاسفة والحكماء والعلماء كلمات غير مفهومات ، وأسماء بلا مسمّيات ، وأن حقائق الأشياء وأسرار الكائنات قد استأثر الله بعلمها ، واحتجنها من دون عباده ، ولم يمنحهم منها الا بلّة تزيدهم وجدا كلما وجدوا بردها ، وتملأ قلوبهم شوقا كلما تذّوقوا طعمها :
ضريبك في بني الدنيا كثير*** وعزّ الله ربك من ضريب
ومالعلماء والجهلاء الا*** قريب حين تنظر من قريب
مصطفى لطفي المنفلوطي .
النظرات (1)
دمت متألقا بإذن الله
في حفظ الله ورعايته