ابن تيمية رحمه الله : من أسباب الوقوع في الفتنة مع الحكام
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً(1) فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ» . رواه البخاري
وكذلك ثبت عنه في الصحيح أنه قال: «على المرء المسلم السمع والطاعة في يسره وعسره، ومنشطه ومكرهه، وأثرة عليه» .
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم عن عبادة قال: «بَايَعْنَا رَسُول الله – صلى الله عليه وسلم – عَلَى السَّمْعِ والطَّاعَةِ في العُسْرِ واليُسْرِ، والمَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ، وَعَلَى أثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَعَلَى أنْ لاَ نُنازِعَ الأمْرَ أهْلَهُ إلاَّ أنْ تَرَوْا كُفْراً بَوَاحاً عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ تَعَالَى فِيهِ بُرْهَانٌ، وَعَلَى أنْ نَقُولَ بالحَقِّ أيْنَمَا كُنَّا لاَ نَخَافُ في اللهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ» . متفق عليه.
فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بأن يصبروا (2) على الاستئثار عليهم، وأن يطيعوا ولاة أمورهم، وإن استأثروا عليهم، وأن لا ينازعوهم الأمر، وكثير ممن خرج على ولاة الأمور أو أكثرهم إنما خرج لينازعهم مع استئثارهم عليه، ولم يصبروا على الاستئثار ثم إنه يكون لولي الأمر ذنوب أخرى فيبقى بغضه لاستئثاره يعظم تلك السيئات، ويبقى المقاتل له ظانّاً أنه يقاتله لئلا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله، ومن أعظم ما حرّكه عليه طلب غرضه: إما ولاية، وإما مال.
كما قال تعالى: ﴿فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاثة لا يُكَلِّمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إِليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رَجُل على فَضْل ماء بِفَلاة يمنعه من ابن السبيل يقول الله له يوم القيامة: اليومَ أمْنَعُكَ فَضْلِي، كما مَنَعْتَ فضلَ ما لم تعمل يَدَاك، ورجل بايَعَ إِماما لا يبايِعُهُ إِلا للدنيا فإن أعطاه منها رضي، وإن لم يُعْط منها سَخَطَ. ورجل حَلَف على سِلْعَة لقد أُعْطِي بِهَا أكثر مما أُعْطِيَ ، وهو كاذب».
فإذا اتفق من هذه الجهة شبهة وشهوة، ومن هذه الجهة شهوة وشبهة قامت الفتنة، والشارع أمر كل إنسان بما هو المصلحة له وللمسلمين؛ فأمر الولاة بالعدل والنصح لرعيتهم حتى قال: « مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرعِيهِ اللهُ رَعِيَّة، يَموتُ يَوْمَ يَمُوتُ وهو غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلا حَرَّمَ اللهُ عليه الجَنَّةَ».
وأمر الرعية بالطاعة والنصح كما ثبت في الحديث الصحيح: «إِنما الدين النصيحة» ثلاثاً. قالوا: لِمَنْ يا رسول الله؟ قال: «لِلَّهِ ولكتابه ولرسوله، ولأَئمة المسلمين وعامتهم».
وأمر بالصبر على استئثارهم، ونهى عن مقاتلتهم ومنازعتهم الأمر مع ظلمهم؛ لأن الفساد الناشيء من القتال في الفتنة أعظم من فساد ظلم ولاة الأمر فلا يُزال أخف الفسادين بأعظمهما. ومن تدبر الكتاب والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتبر ذلك بما يجده في نفسه وفي الأفاق علم تحقيق قول الله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾، فإن الله تعالى يُري عباده آياته في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أن القرآن حق، فخبره صدق، وأمره عدل: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.
——————————-
(1) الأثرة والاستئثار: الانفراد بالشيء دون الآخرين.
(2) قال ابن القيم رحمه الله: الصبر حبس النفس عن الجزع، واللسان عن التشكي، والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب ونحوهما. [عدة الصابرين (1 / 7 )]
من كتاب منهاج السنة ( 4 / 538 – 543 ).