فضيلة الشيخ
محمد بن التجاني المدنيني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الخطبة [ ] الأولى:
الحمد لله.. الحمد لله المتفرد بالثناء إجلالا وإعظاما، سبحانه وبحمده خص عباده بغامر الآلاء تفضلا وإكراما، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تبلغ بنا في جنّة النعيم مقاما ، وأشهد أن سيدنا ومولانا محمدًا عبد الله ورسوله.. قدوة العالمين سمتا وصمتا وكلاما ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾، صلى الله وبارك عليه وعلى آله الذين بهم المجدُ تسامى، وصحابته الذين كانوا لسفاسف القول لجاما، وفي تألق الكلم بدورًا وأعلاما، والتابعين ومن تبعهم بإحسان يرجو من الفوز مراما، وسلّم تسليمًا كثيرا ما تعاقب الثقلان وداما .
أمَّا بَعــــــــــــــــــــــــــــــد: فيا أيّها المؤمنون الكرام، ينقل لنا رسول الله مشهدا في البرزخ فيقول: «…فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيَشُقُّ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الْأَوَّلِ، فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الْأُولَى. قَالَ: قُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ ، مَا هَذَانِ؟ قَالا: هذا الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تَبْلُغُ الْآفَاقَ فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» البخاري
رجل يكذب الكذبة تبلغ الآفاق، والآخر ملك يتولى تعذيبه في البرزخ حتى يبعث الله الناس يوم القيامة [ ] ليكون الجزاء الأشمل والأعم والأدوم، فلَم جعل الله مثل هذا الجزاء من أجل كلمة؟ بل لم تحتلّ الكلمةُ مثلَ هذه الخطورة؟ ما هو تأثيرها في حياتنا الاجتماعيّة والسياسيةّ؟
عباد الله، ربَّ كلمة فرقت بين الإخوة والأحبّة والأشقاء والأصدقاء، وربَّ كلمة هدمت بيوتا وعلاقات، ورب كلمة أحدثت حروقاً، وربَّ كلمة نابية أدَّت إلى خصومة، وربَّ كلمة جافية فرَّقت شملَ أسرة، وربَّ كلمة طائشة أخرجت الإنسانَ من دينه، بالكلمة قد يخرب المجتمعُ بعد بناءٍ وعمران… وتُسفكُ الدماءُ بعد حقنها… وتستباحُ الأعراضُ بعد حفظها… ويُفقدُ الأمنُ بعد استتبابه… ويَفسُدُ حالُ الأُسُر بعد صلاح واستقامة… ويتخاصم الإخوةُ ويتعادى الأحبَّةُ. يقول رسول الله «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ» الترمذي
إذا ما أردنا أن نربط موضوعنا بواقع حياتنا نقول: تزداد أهميّة الكلمة وخطورتُها في أوقات الشدّة والأزمات، فقد يكون لها دور في توجيه الطاقات الكامنة لتخرج إلى النور في صورة عمل نافع بعيدا عن الجدل الفاسد والمصالح المادية والحسابات الضيّقة، أو في صورة رسائل مطمئنة للنفوس، وباعثة على التفاؤل ودافعة إلى العمل وناشرة للمحبة والأخوة والتآلف والتصافي والتعاون والتكافل… كما كان شأن رسول الله مع صحابته الكرام في أيّام الشدّة.
ففي أثناء الحصار الّذي ضربه المشركون وَمَنْ تحالف معهم من قبائل العرب، طمِع يهود بني قريظة في النصر الشامل على المسلمين، فتحالفوا مع المشركين، وانتهى الخبر إلى رسول الله فبادر إلى التحقّق منه، فأرسل سعدَ بنَ مُعاذ، وسعدَ بنَ عُبادة، وعبدَ الله بنَ رواحة، وخوَّات بنَ جُبير، وقال: انطلقوا حتى تنظروا أحقٌّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقًا فالحنوا إليَّ لحنًا أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء [ ] فاجهروا به للناس. فلما دنوا منهم، وجدوهم على أخبث ما يكون، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد، ولا عقد، فانصرفوا عنهم.فلما أقبلوا على رسول الله لحنوا له، وقالوا: عضل وقارة، أي أنهم على غدر، كغدر عَضَل وقَارَة بأصحاب الرجيع.
وقد كان أحرج موقف يقفه المسلمون، وصاروا كما يقول الله تعالى: ﴿وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا﴾ الأحزاب: 10، 11
فماذا كان رد فعل رسول الله تجاه هذا الخبر؟! تقنع بثوبه حين أتاه غدرُ قريظة، فاضطجع ومكث طويلاً حتى اشتد على الناس البلاء، ثم نهض يقول: الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله ونصره.
إجابة مفاجئة للجميع.. بكلمات تبشير بالنصر في ظل موقف عصيب؟!