رأي القدس
يدرك اصحاب القرار في الجزائر ان بلادهم قد تكون مرشحة لانتفاضة شعبية على غرار ما حدث في ليبيا وتونس ومصر، واليمن وما يحدث حاليا في سورية، ولذلك يسابقون الزمن لمنع هذه الانتفاضة بكل السبل، وهذا ما يفسر الدعوة الى الانتخابات البرلمانية التي بدأت امس في مختلف انحاء البلاد.
جميع المراقبين اجمعوا على ان الاقبال على صناديق الاقتراع كان ضعيفا، واعترف وزير الداخلية السيد دحو ولد قابلية في تصريح للتلفزيون الجزائري ان نسبة المشاركة حتى منتصف يوم امس كانت في حدود 15′ فقط، وقال ان الشعب سعيد وانه يأمل ان تكون هذه الانتخابات احتفالا.
انخفاض نسبة الاقبال على المشاركة في الانتخابات يعود الى عدم ثقة قطاعات عريضة من الشعب في نوايا السلطة بحكم تجارب سابقة، وعدم تمتع البرلمان ونوابه بصلاحيات تشريعية ورقابية حقيقية تتلاءم مع طموحات الشعب.
الجزائريون ما زالوا يستعيدون تجربة انتخابات اوائل التسعينات التي فازت باغلبية مقاعد برلمانها جبهة الانقاذ الاسلامية، وجرى الغاؤها بانقلاب المؤسسة العسكرية على العملية الانتخابية، الامر الذي ادى الى اندلاع حرب اهلية ادت الى مقتل ما يقرب من 200 الف شخص في غضون عشر سنوات تقريبا.
الاوضاع تحسنت قليلا منذ تلك التجربة المرعبة لجميع الجزائريين، وساعدت عوائد النفط والغاز السنوية الضخمة (حوالي 65 مليار دولار) في تحسين ظروف المعيشة وايجاد وظائف لبعض العاطلين عن العمل، مثلما ساعدت في تسديد ديون البلاد الخارجية، وتحقيق فائض مالي تقدره بعض الاوساط المالية باكثر من 150 مليار دولار.
السلطات الجزائرية ادركت ان الشعب الجزائري مثل كل الشعوب الاخرى في المنطقة يريد اصلاحات حقيقية في المجالين السياسي والاقتصادي وبما يؤدي الى اطلاق الحريات، وتوسيع دائرة المشاركة في السلطة، وتخفيف وربما الغاء قبضة المؤسسة العسكرية على مقدرات البلاد، وقطع دابر الفساد، وهذا ما يفسر دعوتها للانتخابات البرلمانية الحالية.
البديل عن الديمقراطية الحقيقية في الجزائر خطير جدا وقد يؤدي الى نتائج كارثية، ففوضى السلاح في ليبيا، وسيطرة الميليشيات، وضعف الامن، وزيادة معدلات الفساد، هي بعض فيروسات عدم الاستقرار التي يمكن ان تنتقل الى الجزائر بسهولة بسبب الحدود المشتركة بين البلدين.
هناك من يقول ان الجزائريين تعبوا من المعارضة المسلحة للنظام، فلا يوجد بيت الا وما زال الحزن يسيطر عليه لمقتل اب او ابن او شقيق، عندما رفعوا السلاح احتجاجا على سلب نصرهم الديمقراطي من قبل السلطات، خاصة انهم وجدوا انفسهم لوحدهم في الميدان حيث اصطف العالمان الغربي والعربي خلف النظام لمنع وصول اسلاميين الى سدة الحكم.
مضافا الى ذلك ان الكثير من الجزائريين اصيب بخيبة امل كبرى من جراء ما حدث ويحدث في ليبيا من عدم استقرار وصراعات بين الميليشيات المسلحة على مناطق النفوذ في ظل حكومة مركزية ضعيفة.
مثل هذا الطرح ينطوي على بعض الصحة، ولكن هذا لا يعني ان تطمئن السلطات لامكانية استمرار الوضع الحالي الى الابد، فالشعب الجزائري من اكثر الشعوب في المنطقة استعدادا للثورة للوصول الى مطالبه المشروعة في الديمقراطية والعدالة والمساواة والحياة الكريمة.
التوقعات تشير الى امكانية فوز احزاب اسلامية معتدلة شاركت في الانتخابات بنسبة كبيرة من مقاعد البرلمان، وهذا امر لا يمكن تجاهله، لكن هذا الفوز يظل دون اي معنى اذا لم يؤد الى تغيير حقيقي يستعيد ثقة الشعب بالعملية الانتخابية من خلال تنازلات العسكر عن الكثير من صلاحياتهم، ونقل السلطة الى حكم مدني حقيقي يحتكم الى سلطة تشريعية تملك سلطات حقيقية في التشريع ومحاسبة السلطة التنفيذية.
من الصعب اطلاق احكام مسبقة على انتخابات تجري في الذكرى الخمسين لاستقلال الجزائر من الاحتلال الذي امتد لقرن ونصف القرن تقريبا وادى الى استشهاد اكثر من مليون انسان.
الجزائر دولة تملك كل مقومات العظمة والقيادة، والشعب صاحب التاريخ الحافل بالوطنية المشرفة نصفه من الشباب، مثلما تملك الغاز والنفط والموقع الاستراتيجي، وهي كلها عناصر للقوة وبناء المجتمع المدني الحديث.
وما ينقص الجزائر هو الحكم الرشيد القادر على قيادة البلاد في هذا الاتجاه الصحيح وتحقيق المصالحة الوطنية، وترسيخ اسس التعايش بين مكونات الشعب والوان طيفه السياسية والديموغرافية. والمأمول ان تكون هذه الانتخابات خطوة في هذا الطريق وبعدها قد لا تحتاج البلاد الى انتفاضة شعبية مفتوحة على جميع الاحتمالات.