عرض القرآن الكريم الكثير من الحقائق الكونية ولكنه عندما يعرض أي قضية من قضايا الكون العلمية لا يعرضها بأساليب البشر باستعمال المقدمات والدلائل والمعادلات واستنباط النتائج وإنما يقدمها بالاشارة أو الرمز أو المجاز أو الاستعارة أو بالعبارات التى تومض في العقل بنور روحي باهر، إنه سبحانه ينزل آيات قد لا يدرك معناها أو يفهم حقائقها وأسرارها في وقتها كل المعاصرين لنزولها لان العلم بقوانين الكون كان محدود الآفاق وقتئذ، ولكنه سبحانه يعلم أن المستقبل سوف يأتي بشرح لهذه الآيات في ضوء علوم عصورها، ومصداق ذلك قوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق). وتدل الدلائل على أن العلماء الذين درسوا الآيات الكونية في القرن فيما بعد وطبقوها على ما وصل إليه العلم في زمانهم في الفلك أو الطب أو الطبيعة أو الكيمياء أو الاحياء وغيرها من العلوم وجدوا تطابقا وتوافقا علميا رائعا أكد لهم أن القرآن كتاب الله الحق الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. لذلك كان علماء الفلك وعلماء الطب أكثر الناس إيمانا بعظمة الخالق المبدع وأسبقهم إقرارا بألوهيته لما رأوه رأى العين من أن القرآن الكريم الذى نزل على نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه منذ أربعة عشر قرنا من الزمان كان هو نهاية العلم الذى يصلون إليه كلما جد جديد في بحثهم، وهذا هو العلم الذى جاء به النبي الامي محمد الذى لم يكن هو ولا قومه ولا عصره يعرف شيئا من فلك أو جيولوجيا أو كيمياء أو طب أو غير ذلك. وقد أدرك الناس مكانة العلم في القرآن الذى هو دستور الاسلام، من أن أول ما نزل من وحى السماء على النبي صلى الله عليه وسلم هو قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذى خلق) ثم إنه سبحانه أقسم بأداة العلم وهى القلم في قوله تعالى: (ن والقلم وما يسطرون) فدين الاسلام وكتابه هو كنز العلوم التى حثنا القرآن في آياته مرارا على النظر إلى صنع الله في مخلوقاته والتأمل فيها والتفكير في خواصها وأسرارها والعلم بها. وإنه من الخطأ أن يتوهم الواهمون بأن العلم هو ما أتى به أهل الغرب، أو أنه علم العصور الذى يتطور من حين إلى حين، إذ الحقيقة أن علوم الدين الاسلامي هي نهاية العلم، وقد ثبت أن مبادئه وشرائعه منذ نزلت وإلى أن يرث الله الارض ومن عليها هي خير المبادئ والشرائع لكل زمان ومكان. وأن الاسلام دين واحد لا يتعدد في نظمه ولا يتطور في أصوله، وليس هناك إسلام قديم يناسب عصره وإسلام جديد يتفق مع أهواء البشر وتقلباتهم. ويجب أن يؤمن كل مسلم بأن ما يجد في عصرنا من إدراك علمي لآيات القرآن ليس معناه أن حقائق القرآن تغيرت أو تطورت في ذاتها، وإنما الذى يتغير ويتطور هو عقل الانسان الذى يتسع إذا استنار وفكره إذا استقام مع كثرة البحث والدرس والتجريب فيبدو له القرآن على حقيقته الاصلية الخالدة. لمحة في كوكبنا الارضى جاءت في القرآن الكريم آيات كثيرة تتحدث عن السماء والارض والنجوم والشمس والقمر، وعن ظاهرات اختلاف الليل والنهار وجريان الشمس وتكون السحب ونزول الامطار وكذلك ذكرت ما يوجد على الارض من جبال وأنهار ونبات وأشجار وحيوان وحشرات، كما وردت آيات تبين خلق الانسان وسلالاته وما يتعلق بحياته وجهاده وسعادته أو شقائه وذكرت غير ذلك كثيرا من شتى المخلوقات التى أوجدها لله في ملكه وحثنا على مشاهدتها والتدبر في روائعها. وقد اهتدى الانسان بما وهبه الله من ملكات واستعدادات عقلية أن يعرف الكثير عن عالمنا الذى نعيش فيه واستطاع أن يكشف لنا عن أن الكرة الارضية لبثت زهاء عشرين مليونا من القرون بلا حياة ولا أحياء تدب عليها، وذلك خلال الازمنة والحقب الجيولوجية وقبل ظهور الحياة عليها. ولم يكن هناك على سطح الكرة الارضية وقتئذ سوى الصخور والمياه ولا شئ غير ذلك وفي تلك الازمنة السحيقة أخذت العوامل الجوية ولحركات والاضطرابات الباطنية تفتت الصخور ويترسب فتاتها على هيئة طبقات رسوبية يستقر بعضها فوق بعض على قيعان البحار والمحيطات كما تنتظم الصحف في الكتب ورقة فوق أخرى. وبعد هذا النوم العميق في حياة الكرة الارضية بدأت معالم الحياة ومواكبها تظهر في صور بدائية من عوالم الحشرات والنباتات والاشجار والغابات، وتغير وجه الارض مرارا وصار عاليها سافلها تحت تأثير العوامل الجوية والحركات الباطنية فكانت الكائنات الحية من نبات وحيوان تنطمر في باطن الارض، وتترك آثارها فيه كما كانت عليه من حجم وهيئة وكيان في حياتها، وهذه هي الحفربات التى يعثر عليها علماء الجيولوجيا في بحثهم ودراستهم لطبقات الارض، وهم يشبهون الصخور الرسوبية وما فيها من حفريات بأنها السطور التى كتبتها الارض في سجل تاريخها الطويل الحافل بتطوراتها وتقلباتها، وهذا هو سفر التاريخ الاعظم الذى ما يزال علم الجيولوجيا يستمد منه الحقائق تلو الحقائق مع كل حفر وتعمق في البحث لاظهار معالم الحياة والاحياء في عهودها القديمة جدا، وهى عهود لها أزمان تقدر بالآف الملايين من السنين ولا يعرف مددها إلا الله الازلي الذى لا أول له ولا آخر. الكون كتاب مفتوح لكل قارئ له ومتدبر فيه إن الارض التى يعيش عليها الانسان وغيره من المخلوقات هي جزء ضئيل جدا في ملكوت الله، بل هي ذرة أول أو أقل في عالم الاكوان الذى هو مجموعات هائلة من مجرات هائلة ونجوم لا حصر لعددها ولا نهاية لامتدادها خلقها الله سبحانه بقدرته وإرادته، وأوجد فيها أنواعا شتى من مخلوقاته، ودبر أمورها تدبيرا محكما قائما على العدل والرحمة والاحسان والاتقان لانه جل جلاله لم يخلقها عبثا بل أوجدها لحكمة عليا أرادها هي معرفة عباده له وواجب عبادته وحده. وقد شاءت إرادة الله أن يجعل هذا الكون العجيب كتابا مفتوحا يقرأه كل من يتأمله ويتدبره بعين العقل والفكر والوجدان ليتضح أماما بصيرته ما فيه من روعة وجمال وبهاء وما أودعه الله في نظامه الدقيق من قوانين ونواميس تحكمة وتنظمه، وقد اجتهد في قراءة صحف هذا الكتاب الكونى علماء مفكرون وباحثون ملهمون وخبراء متخصصون استطاعوا مع طول الدرس والبحث أن يكشفوا في عصورنا الحديثة عن كثير من أسرار الكون في ضوء العلوم التى وضعوا قواعدها في الطب والفلك والرياضيات والكيمياء والجيولوجيا والهندسة والتكنولوجيا وعلوم الانسان والحيوان والنبات والحشرات وغير ذلك من مختلف العلوم التى هدى الله بها الانسان أن يتعلم ما لم يعلم من علم الله الواسع في ملكوت السماوات والارض. وقد نزل في كثير من آيات القرآن إشارات إلى العلوم الكونية وغيرها مما تمكن الانسان بواسطتها أن يصل إلى معرفة قوانينها وقواعدها ونظرياتها بعد نزول القرآن بعدة قرون، وكان من فضل الله على الناس أنه وجه أنظارهم إلى الكون ليدرسوه ويتعرفوا على ما جاء في الآيات القرآنية عن حقائق عنه، وقد استطاع أولو الالباب من العلماء أن يلمسوا الصلة الوثيقة بين ما أوحى به القرآن من قبل وما كشف عنه العلم من بعد وما تأكد من سبق القرآن بأكثر من أربعة عشر قرنا بهذه المعلومات عن الكون وما فيه وأنها في جوهرها تتفق مع العلم الحديث الصحيح في معظم نظرياته التى انتهى من إقرارها بعد ثبوتها. وفيما يلى عرض لمختلف الآيات الكونية وغيرها، وكل آية منها مفسرة أولا تفسيرا يتفق مع وجهة نظر علماء الدين، وثانيا مفسرة تفسيرا عصريا يتمشى مع الآراء العلمية التى ثبتت صحتها، وزيادة في توثيق الصلة بين النص القرآني والعلوم الحديثة وتوافقهما أضفت فقرات موجزة لبعض النظريات العلمية المؤيدة للقرآن مع شرح مبسط لها. ………………………………………….. ……………….. يوسف البرق .