إن الإنسان، أكمل مخلوقات الله، مما عرفنا، جسما، وأكملها عقلا، وأقواها في الأرض وأعتاها، هذا الإنسان يولد ومعه عجز عن الحياة كامل. إنه يولد للموت لولا أمه، فإن فقد الأم فأبوه وذووه. إنه لا يدري ما يأكل ولا كيف يأكل، فتعلمه الأم ما يأكل وكيف يأكل وهو لا يدري كيف يشرب فتعلمه الأم كيف يشرب، ولا كيف يمشي فتعلمه الأم كيف يحبو ثم كيف يمشي. وهو لا يستطيع التعبير عما يخالجه فتعلمه الأم كيف يعبر. وقد أودع الله فيه كل ما يجب إيداعه في التلميذ ليتعلم سريعا، وليتعلم كثيرا ووفيرا. ويكبر الطفل وفي أثناء ذلك تعلمه الأم الكثير من ثقافة العيش الأولى. كيف يقضي حاجته، كيف ينظف جسمه ويحافظ على نظافته. كيف يلعب ويتعلم من لعبه. واللغة، اللغة. إنها تعلمه اللغة، ومع اللغة ثقافة القوم. إن اللغات ليست فقط كلمات، ولكنها مخازن الثقافات. الأم إذن، والأب أحيانا، والبيت دائما، منها جميعا تتألف المدرسة التي يتجهز فيها الإنسان للحياة أول تجهيز. وكل بيت في الدولة، أي دولة، إنما هو مدرسة الحياة الأولى. إنها مدارس ما دون الرياض، رياض الأطفال. ولقد ظهر في هذه العصور القريبة خطر الرياض في تجهيز الأطفال، ولكن لم يظهر بعد خطر مدارس ما قبل الرياض – بيوت الأمهات والآباء – في تجهيز البنين والبنات للحياة. وأخضعنا كل شيء للتدبير والتنظيم، إلا أعشاش العيش الأولى، تلك المفارخ التي تفرخ فيها الأفراخ، فقد تركناها من غير تدبير وتنظيم. والنتيجة أن هذه المدارس، مدارس ما قبل الرياض، ترتفع أو تنحط، تبعا لدرجة الثقافة العامة التي توجد في البلاد، أي بلاد. وأخصها في هذا المجال ثقافة المرأة، الأم، لا من حيث أنها تحسن إطعام الطفل فحسب، وإلباسه فحسب، وإنطاقه وإلعابه فحسب، ولكن من حيث انها تعطيه أولى عادات العيش السليم، وتفتح له طاقات، ولو صغيرة، على معان من السلوك، وأساليب بسيطة من الفكر، هي أول زاد الإنسان عندما يخطو عتبة داره، دار أمه وأبيه، ليبدأ السير في زحام الحياة صغيرا، ثم كبيرا، ثم إنسانا ناميا يفخر بإنسانيته، وتفخر به إنسانيته. وقد درجت الأمم في تجهيز أبنائها وبناتها للحياة، على تجميعهم في مدارس، يقوم عليهم فيها رجال ونساء لهم بشؤون التربية اختصاص. ولم تستطع الأمم بالطبع تجميع الأطفال، وهم ولائد، في مدارس. تركتهم للأمهات. ومن أجل هذا وجب أن تكون الأمهات – ببعض شؤون التربية، تربية الولائد الأطفال، – ذوات معرفة واختصاص. والأمم المتحضرة سهلت على الأمهات فيها التزود من التربية، وأساليب التنشئة، بزاد، عن طريق الدروس تلقى على طالبات الزواج من قبل زواج ومن بعد زواج. ثم هي غمرت الأسواق بفيض من الكتب، وأشتات من المجلات، وهي مطبوعات لم تكد تترك مشكلة تعرض عند تنمية الطفل إلا تناولتها. وتناولها بها المختصون، فيما يتصل بشؤون جثمانية صحية طبية، وما يتصل بشؤون نفسية انفعالية عاطفية، وذلك بعد أن تقدم الطب على النحو الذي نعرف، وتقدم علم النفس، لاسيما التربوي منه، ولاسيما المتصل بعالم الأطفال، على النحو الذي نعرف. جعلوا من الأمهات بهذا الأسلوب، وهن في بيوتهن قابعات، مدرسات. ولكن سبق ذلك أن مهدوا للنساء، وهن فتيات وآنسات، إن يكن دارسات، قبل أن يكن زوجات وأمهات مدرسات. مهدوا لهن ان يكن متثقفات. قبل ان يكن متثقفات.. ومن هنا كانت الدعوة إلى تعليم المرأة وتثقيفها. وما كانت إلا دعوة لتعليم الأمة قاطبة، في مدارج الحياة الأولى. في مدارس ما قبل المدارس، حيث المقاعد حجور الأمهات، وحيث البرامج كل ما تقع عليه يد طفل فتمسه، أو تقع عليه عينه فتراه. نعم ظل البيت هو البيت : المأوى الذي يأوي إليه الطفل، من بعد نهار أو بعض نهار يقضيه في الروضة، ويرتمي في حضن أمه فيجد الدفء، ومع الدفء الأمن من الخوف. وهل يخاف الطفل ؟ نعم، ومن أكثر من شيء، وهي أشياء ليست للكبير بمصدر خوف، ولكنها للصغير تسبب الريبة والقلق. دنيا جديدة هو يجربها ليفهمها، ثم ليألفها. وفي طريق فهمه وألفته إياها يفزع قليلا أو يفزع كثيرا. تطوقه أمه بذراعيها فكأنما طوقته بحصن ذي جدار سميك. والطفل بعد رياض يدخل المصنع التعليمي، وأول درجاته المدرسة الابتدائية. وأسمي المدارس بالمصانع لأن التعليم بها اصطناع. إنه تجنيد. صفوف تصف، ومقاعد تـُمـلأ، يجلس عليها الجالسون الساعات كاملة، لا حركة ولا تهويش.
وفي البيت انفكاك من جندية. والبيت باق ما بقي إنسان على ظهر الأرض. لقد نال من البيت، يريد هدمه، قدماء في الزمان ومحدثون. ومن القدماء أفلاطون. ذلك الفيلسوف القديم غمرته الدولة بسلطانها غمرا، وملأته بخطورتها، حتى ضحى في سبيلها بكل شيء. ومما ضحى به البيت. كان يرى أن أجواء المنازل أجواء لا تتفق والجو الذي يريده للدولة، ولا هي عنده مرابي صالحة لتنمية النشء الذي تكون عنده الكفاية من الولاء لخير الدولة. إذن فلنخرج الأطفال عن بيوتهم، ولنسقهم سوق الأغنام إلى حظائر. وفي الحظائر الإنسانية، التي تشرف عليها الدولة، ينشأ المواطن الصالح.
شيوعية فاقت كل الصفوف التي عرفناها فيما تلا من قرون. ومن المحدثين الذين أرادوا النيل من البيت البلاشفة. هكذا أرادوا في أول أمرهم، ثم تبينوا خطأ زعمهم، فعادوا إلى الأسرة، يحمونها، إلى البيت يعمدونه. فالبيت باق باق، على اختلاف المذاهب جميعا، وتوالي القرون. ولكن البيت ليس من حجر وطين. إنه ألفة بين ساكنيه، أو نفرة. سعادة أو شقاء. والمرأة روح البيت، لا الرجل. إنها ساكنته، وإنها حارسته، وإنها الحانية على فراخه. لهذا وجب أن تتثقف كتثقف الرجل أو فوق تثقف الرجل، وأن تفتح لها بالتعلم على الدنيا ألف نافذة. والتعلم والتثقف ليس تعرية نحور ولا كشفا عن ظهور، ولكنه كذلك ليس اختباء في جحور. والتثقف وقاء من شرور الدنيا، وإلا فثقافة الطبع أولى وأحكمآحتـرآمي لك |
||
تحيتي وتقديري لك
وودي قبل ردي .,.,.,!!