ساعة الحب التاسعة
أيها السادة أنتم الحاكمون عليّ……..أنا لست منعزلا عنكم ……..أنا هو أنتم ……..مواطن قذفته الأقدار هناك أبى الهول لا ليتأمل هذا الجسم الضخم ورأس الانسان الأصم الذى يعبر عن ماضى قوى فيعطيه شيئا من ثناء أو ينثر عليه حفنات من اعجاب …بل ليقف أمام دكان (عم حسين) بائع العصى الصغيرة ليشترى عصا كى يؤدب تلاميذ فصوله الذين يتطاولون كبنيان الهرم وينسون أحيانا معانى الخوف من مدرس مثلى قد وصل العقد الرابع أو ما يزيد ولم يتزوج بعد…….وكان (عمى حسين) رجلا فى العقد السابع أحلى ما فيه بسمته وشاربه أما كلماته فصدقونى لم أفهم منها الا قوله لى ثمن العصا خمسة جنيهات ) قذفت فى وجهه تلك الورقة البغيضة – ورقة الخمس جنيهات- وتركته أهيم على وجهى على رمال أبى الهول مثل سائح أجنبى يشترى كل شئ حتى الضحكة الخارجة من صدر (عم حسين) المعبأ بدخان السجائر الأجنبية تشترى بالورق الأحمر والأخضر فتلك هى حياتنا ….. وأبطأت من سيرى أتأمل النوق والجمال والحمير وأهل أبى الهول الطيبين فأجدنى غريبا عنهم لا أشعر بما يشعرون من فرحة وحبور فكل الذى أشعر به شقاء وترحه وعبث وجنون وبين الوهلة والوهلة أحس بأن هناك من سيهجم على ويسلب منى الخمسين جنيها التى لا أملك غيرها في الهرم – بيت الغربة والعذاب – وكلما اقترب منى أحد أراني أضع يدى على جيب القميص الأيسر ومن يراني يتوهم أن بقلبي شكوى من ألم أو أن جرحا لا يلتئم ….انهم لا يعرفون الحقيقة …… لا يعرفون أن بداخلي نافورات من الحزن على الفشل الذى يصيبني في كل موقع تدوسه قدمي…. أنا من يندس وسط الزحام ليختفي من نواظر الحياة ……..أنه يستحى من وجود المريب على أرض الهرم ترى من يكون سوى رجل كهل أنهكته سنوات الكفاح المرير على أرض لم يجد فيها نجاحا واحدا….ما حصد سوى الهزيمة …….ان كان للهزيمة وجه فسيكون ذلك الرجل يبلغ من العمر أربعين سنة أو يزيد أنى أذكر حياتى جيدا ….لم يكن للحب فيها نصيب بقدر ما كانت للحيرة أو الضغائن…فقد ضاع حبى من يدى وصار بهاء تذروه رياح الواقع المؤلم من عشرين عاما فى الجامعة عند الساعة العالية التى مازالت تدق….أنا لا أراها ولا اسمعها إلا وهى تدق التاسعة تلك اللحظة التى قابلت وودعت فيها الحب وكسرت عيدان بخوره بيد وقدم غليظة وقلت لكل أفاعى الدنيا هيا أخرجى أيتها الأفاعى على صوت مزمار الفشل). صدقونى لم أذق للنجاح طعما ولو لمرة واحدة سلم المجد فأنا كما أنا مدرس حقير يعيش فى الشوارع بلا مأوى أو هدف يرى الناس الطيبين فى أبى الهول يوزعون الحب فلا يحن إلى سلوكهم ولا يأبه بشكواهم آه يا زمنى الجريح!! كم غطت الهموم رأسى لأعود من جديد الى الصوت الذى طالما أطربنى وأشجانى …..أماتنى وأحيانى ..ذاك الصوت الذى يسخر من وجودى فى الهرم .أنى أحاول أن أسكته … أقلعه من جذوره الممتدة فى ضلوعى أقول له اخرس يا صوت الهزيمة يا من هزمتنى ) ومازلت فى أبى الهول ….. ساقتنى قدماى إلى أول الشارع ومعى عصا (عم حسين) الطويلة أتعكز عليها كما يفعل المسنون وأتخيلها سيفى المغمود ودرعى المكسور ورمحى المدفون وترسى المنهوك وكيانى المحطم فى الهرم وأشرت لسيارة أجرة متجه الى شارع الهرم الطويل الممل المصارع للخلود والمواكب لنزعة التجديد والاباحة .. وانا واقف كقاطع طريق ففى يدى سلاح الفارس القديم .وركبت السيارة تلك العربة الحقيرة مكسورة الباب والزجاج وكانت جلستى بجوارالسائق العجوز الذى شيبته ليالى الهرم ووضعت العصا تحت قدمى والسائق يبحلق فى بنفور وزجر وكل العربة تتساءل فى همس عن هذا المجنون والصوت داخلى يرد أنا من ضاع وتاه فى أنياب الهرم)
والعربة تسير ببطء وأنا أجلس وحدى جنب السائق اللعين ذى النظرات القاصمة الذى أخذ منى ورقة الخمسين قرشا دون ان يرد لى بقيتها … وخفت أن أطلب بقية حقى كى لا يصدمنى بكلمة نابية وسكت وأنا دائما أسكت فالكل يأخذ منى حصصى فى الحياة وفجأة ظهرت أمام العربة فتاة جميلة صغيرة لا يتعدى عمرها خمسة عشر ربيعا ….بهرتنى بالحجاب الذى لا يناسب البنطلون الضيق والبلوزة الواسعة
إنى أراها ثيابا مهلهله من ورق جنات النعيم وكانت جلستها بجوارى والعربة مكدسة بالناس ودنوت من السائق اللعين وأنا لا أطيق رائحته العفنة لكن المسك الذى يضوع من أردانها حول العربة الى حديقة فيحاء ….ووجهى ناحية السائق أتملى التجاعيد التى تملأ وجهه والشعيرات البيضاء الباقية فى رأسه واقترب على التقيئ من سحنته ونتنه لكن يخفف على الرائحة المنبعثة من تلك الفتاة الصغيرة التى أخجل من النظر اليها …….لماذا هذه الفتاة بالذات ؟ ولم أطاوع هواجسى وفضلت سحنه السائق اللعين …. وتتزاحم الأفكار فى رأسى وتذكرنى بالذى نسيته من فتوة وعريكة وتهور وشباب وحب وجنون.
يا دنيا : سبحت فى بحرك العميق حتى أوشكت على الغرق فما وجدت يد النجاة إلا الهرم.
وسألتنى الفتاة الصغيرة بخبث ولؤم كم الساعة الآن) فحولت وجهى اليها ووليته ناحيتها لأرى وياللعجب صورة الحب القديم بطهره وعفته وبراءته.
أيها السادة :ان وجهها وجه ملك كريم وحديثها تراتيل صوفى عابد… وصوتها تغريدة بلبل يتيم.
آه أبعدوها عنى …..انزعوا صورة الحب القديم من صدرى وأغمدوا سيفكم فى صدرى .أو اتركونى شهيدا فى عمق النيل . وأجبت دون تفكير ووجهى قد احمر وفرائسى ترتعد الساعة الآن التاسعة) وضحكت كل العربة الا انا وهى فهى تركز تركيزا غريبا فى وجهى الأسيف وكأن دموعها تتجمد فى مقلتيها وتهم بالنزول بشدة……. تريد أن تسعفنى وتحوطنى بالحماية من هؤلاء الذين لا يفهمون أناشيد روحى ولا يعلمون معانى بؤسى . انى أخطأت فى تحديد الوقت فالساعة ليست التاسعة لكن ساعة الحب مازالت تدق داخلى التاسعة سقطت على خضرة الجامعة أتلوى من الألم والفتاة التى أحببتها تعلن أمام الملأ على رجل ثرى نفس اللحظة التى أتأملها بشاعرية العذريين وشفافية المتصوفة وإيمان الأولياء . والبنت تنظر الى وتبتسم وتكبر بسمتها حتى تصير ضحكة وترفع حاجبها وتخفض آخر وتغمض عينا وتفتح أخرى لقد عاد لى حبى الذى فقدته منذ عشرين عاما . وجاءت محطة الكوم الأخضر ونزلت الفتاة وأنا وراءها والسائق اللعين ينادينى يبدو أننى نسيت العصا ومشت الفتاة ومشيت وراءها مثل طالب ثانوى تافه حتى وقفت الفتاة لألحقها وقبل أن أنبس لها بكلمة واحدة أراها تنظر الى وتضحك بصوت عال ثم تقول بسخرية مستر عادل ألا تعرفنى انا ايمان تلميذتك فى الفصل)
انتهت
أنتظر جديدك ,’
ودي