تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » عبد الحليم قنديل: هناك فرق

عبد الحليم قنديل: هناك فرق 2024.

هناك فرق
عبد الحليم قنديل

كثيرا ما تستدعي فكرة المشابهة بين صدام 1954 وصدام 2024 في مصر، ولن تعدم من يقول لك أن التاريخ يعيد نفسه، وأن صدام المجلس العسكري مع جماعة الإخوان هو تكرار لصدام جمال عبد الناصر مع الجماعة ذاتها قبل حوالي ستين سنة.
وتبدو الظواهر على السطح مغرية بتصديق حكاية التكرار المزعومة، فالمجلس العسكري يلبس ‘الكاكي’نفسه الذى كان يرتديه عبد الناصر، فيما تبدو جماعة الإخوان هي نفسها، وإن كانت شعبيتها أكبر حتى عام 1954، صحيح أنها لم تكن امبراطورية اقتصادية كما هي حال الإخوان الآن، لكن عدد أعضائها العاملين كان يقارب النصف مليون عضو فى بلد كان تعداد سكانه وقتها لا يزيد عن العشرين مليونا.
ولا تبدو قصة التكرار ـ مع ذلك ـ مقنعة، ليس فقط لأن التاريخ لايعيد نفسه، ولا لأن المياه ذاتها لا تجري في النهر مرتين، وإن تشابهت الحوادث أحيانا في العناوين، فتلك هي النظرة الأولى الخادعة، لكن النظرة الثانية المدققة تكشف خواء قصة التكرار المزعومة، فقد كان عبد الناصر عسكريا، لكنك تحتاج إلى خلع عقلك، وأن نضع مكانه الحذاء، إن أردت أن تصطنع شبها بين شخص عبد الناصر وشخص المشير طنطاوي مثلا، أو بين أي أحد من أعضاء مجلس قيادة ثورة عبد الناصر وأي أحد من جنرالات المجلس العسكري، فاصطناع التشابه عمل في غير محل من عقل أو وجدان، وفوارق التكوين الشخصي ظاهرة لا تخفى، ولا يملك أحد أن يصطنع مشابهة أو مطابقة بين أشياء لمجرد اشتراك الوظيفة، فالطائرة والحمار يتحركان، لكن لا أحد يفكر في المقارنة بين الطائرة والحمار، ولا أحد بوسعه المقارنة بين مجلس قيادة ثورة 1952 والمجلس العسكري الحاضر، وإلا كان جائزا أن تقارن سرعة صاروخ عابر للقارات ببطء سلحفاة عجوز أدركها الموت، أو يكاد.
وبالطبع، لا أحد هناك يقارن إلى شخص جمال عبد الناصر، وإلى تكوينه القيادي الباهر، وإلى إستثنائيته الفذة في التاريخ المصري والعربي الحديث والمعاصر، وحقائق التاريخ المجردة تكشف ضلال قصة التكرار، فقد كان عبد الناصر ورفاقه ضباطا برتب صغيرة ومتوسطة، وحين كونوا تنظيم الضباط الأحرار، فقد كان أغلبهم على صلة ممارسة مع أحزاب الحركة الوطنية المصرية، بل ومع جماعة الإخوان ذاتها زمن مؤسسها ومرشدها الأول حسن البنا، ولم يكن هؤلاء الضباط الثوريين في قيادة الجيش كما حال جنرالات المجلس العسكري الحاضر، بل كانت قيادة الجيش وقتها هي أول ما أطيح به على يد الضباط الأحرار، وكانت قيادة الدولة وقتها هي هدف الإطاحة المباشرة، فقد أطيح بالبيت الملكي وساسته المحترفين في وزارات العبث السياسي، ثم جاء الدور في الإطاحة على قوات الاحتلال البريطاني التي كانت تحكم وتتحكم من وراء الستار ومن أمامه، أى أن خط حركة الضباط الأحرار كان وطنيا واجتماعيا بامتياز، وكانت إطاحة الطبقة الحاكمة في الجيش والسياسة هي الهدف المباشر، وتلك كلها حقائق مجردة تكشف خواء قصة التكرار، ورذالة افتعال المشابهة بين ضباط 1952 وجنرالات 2024، ثم أن جنرالات المجلس العسكري لم يقودوا ثورة، ولم يكونوا من حماتها، ولا من أصدقائها، فالثورة الجديدة من عمل الناس الأحرار، وصلة ثورة الناس الأحرار بثورة الضباط الأحرار وثيقة في العمق، فقد انقلب السادات ـ بعد حرب 1973 ـ على خط عبد الناصر وثورة الضباط الأحرار، ثم كان الوقوع في القيد الإستعماري من جديد، وبمضاعفات ما جرى بعد عقد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وما تبعها من قيود المعونة الأمريكية الضامنة، وانتهينا إلى نزع سيادة السلاح في سيناء، ثم إلى نزع سيادة قرار السياسة والاقتصاد والثقافة في القاهرة، وانتهت مصر إلى وضع البلد المحتل سياسيا من قبل الأمريكيين، وإلى وضع البلد المهدد بحد السلاح الإسرائيلي، وإلى ظروف تشبه ما كان عليه الوضع قبل 1952، وإن لم تكن بالطبع من نوع الاستنساخ والتكرار الحرفي، وكانت النتيجة ظاهرة بأماراتها في وضع الجيش، فقد انتهينا إلى مورد شبه وحيد للتسليح، وتماما كما كان عليه الأمر قبل 1952، كان تسليح الجيش المصري امتيازا خاصا للبريطانيين المحتلين، وصار تسليح الجيش ـ بعد معاهدة العار ـ امتيازا خاصا للأمريكيين المحتلين هذه المرة، وكما حرص البريطانيون على إضعاف الجيش المصري، كذلك يفعل الأمريكيون المندمجون استراتيجيا مع إسرائيل، وبالطبع اختلفت الأساليب، وكان من بين أسوأ النتائج ما جرى على وضع الجنرالات، فقد أراد الأمريكيون إضعاف صناعة السلاح المصري، ودفع الطاقة الحربية إلى نشاط اقتصادي مدني، وهو ما يفسر نشأة ما أسمى ‘جهاز الخدمة الوطنية’ في الجيش المصري بالتوازي مع بدء سريان معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، ولفت نظر قادة الجيش عن سباق التسليح مع إسرائيل، وإلى سباق آخر حول الكثير منهم إلى ‘جماعة بيزنس’ لا قادة سلاح، وتغيرت خرائط طموح الجنرالات، فبدلا من أن يطمح جنرال ليكون قائدا سياسيا مستلهما لسيرة جمال عبد الناصر، أو أن يطمح ليكون قائدا عسكريا على طريقة عبد المنعم رياض وسعد الدين الشاذلي، بدلا من طموحات السياسة والسلاح، جرت ‘بزنسة’ الطموح، وبإغراء من التوسع في النشاط الاقتصادي المدني المملوك للجيش، والذي تستنزف فيه طاقة مجندين فيما يشبه نظام السخرة، ويتوسع في حجمه حتى بلغ ما يزيد على ثلث إجمالي الاقتصاد المصري، أى أننا صرنا بصدد إمبراطورية اقتصادية، تحول فيها جنرالات إلى أباطرة بيزنس، ومن خلال نظم صرف وصناديق وطرق تحكم خاصة، وهو ما يفسر الثراء الفاحش لعدد كبير من جنرالات المجلس العسكري، وتحولهم إلى مليارديرات وشركاء في عملية النهب العام التي ابتليت بها مصر على مدى العقود الأخيرة، أي شركاء فى شفط الثروة التي تستلزم سلطة تحميها، وهو ماتوافر لهم وحدهم بعد خلع مبارك، والبدء في الاحتيال على الثورة الشعبية، وتتويج الانقلاب على الثورة بالإعلان الدستوري الأخير، والدخول في صدام مع قوى شعبية بينها ـ بالطبع ـ جماعة الإخوان، والأخيرة تسعى لكسب ود الأمريكيين ونزع رعايتهم للمجلس العسكري.
والمحصلة ـ باختصار ـ أن ثمة فروقا واسعة بين ماجرى فى 1954 وما يجري الآن في مصر.

‘ كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.