ليحيى حقي
خرج حسين من مدرسته متأبطا محفظة كتبه، والى جانبه رفيقه محمود.كان ذهن يثب من خاطر إلى خاطر، فقد تمثل أخته المريضة بالحمى، ووجهها النحيل يعلوه شحوب، وشعر بالغبطة تنسم في قلبه وهو يتذكر كلمات الطبيب يؤكد لأمه أن ابنتها ستبرأ بعد أيام قليلة. ثم تذكر أستاذه عبد العظيم، فتلاشت غبطته، وجنح قلبه إلى الانقباض، وهو يستعرض في ذهنه كيف تهدج صوت أستاذه حين حدث تلاميذه عن حرب فلسطين، وعن ابنه الذي استشهد في القدس. وأنشأ صديقه محمود يسرد له كيف قام بمغامرته ليلة البارحة، وكيف تسنى له أن يتسلل إلى بستان برتقال، ويقطف من الثمار ملء جيوبه، ثم يعود دون أن يراه اليهود.
لقد تمكنت من الفرار في الوقت المناسب، سأعود غدا أو بعد غد إلى التجربة مرة أخرى، أما تأتي معي يا حسين؟ وغض طرفه وأجاب مرتبكا: " لا أستطيع أن أترك أختي، إنها مريضة بالحمى كما تعلم" كان حسين يخشى أمه في الواقع، فهي تنهاه عن الاقتراب من الحدود.
وغزت وجه حسين حمرة خجل، وودعه رفيقه، ثم أخذ طريقه نحو البيت،وتشبثت غصة في حلقه وهو يسائل نفسه أتراه يقدر أن يستجيب إلى الرغبة الجامحة القوية التي تغريه باجتياز الحدود ليصل إلى دار أبيه، ويقطف بعض الثمار؟وأخذ الحقد يأكل قلبه وهو يرى أطلال الدار، إنها بحوزة اليهود،فهو محروم منها، لقد استبدل بها غرفة صغيرة حقيرة، يسكنها مع أبيه وأخته،في الطرف الثاني من الحدود المخضبة دوما بالدماء.
هناك غير بعيد من الحدود، ما زالت شجيرات البرتقال الخمس التي زرعها أبوه قديما ذاهبة في الفضاء
عاليا، لابد أنها مثقلة بالبرتقال الذي يمتلئ رحيقا شهيا.
يتسابقان في القطف، ورفت نفسه إلى هذه الذكرى الحلوة، فجعل يتأمل في هذه الحقول الخضر المترامية، فسرح نظره، وانتهى إلى سمعه صدى طلق ناري فارتعش، لا ريب أن أحد الحراس يتصيد شبح متسلل عربي. و ومضت في ذهنه فكرة جريئة: لم لا يجرب أن يجوز الحدود في نهاية هذه الليلة؟ وتوقع حسين أن تؤنبه أمه إن قام بهذه المغامرة، فقد تذكر كيف عاد أبوه ذات ليلة بسلة برتقال، وحين آوى الجميع إلى النوم ، سمعها تخاطب أباه بصوت هامس:" إنك تعلم ابنك أن يحدو حدوك، أما تدري أن رصاص اليهود غادر؟ وسمع جواب أبيه،" لا أخاف عليه، لقد أضحى فتى قويا، قمت بذلك من أجل فاطمة. وأردف بلهجة حازمة:" ثم إن البرتقال الذي قطفته هو من مالي " وتذكر أن أخته قد سمعت هذا الحديث، فقد خاطر أبوها من أجلها فقالت له:" لا أريد يا أبي أن أشرب عصير البرتقال بعد الآن إني شفيت". وتصور حسين أن أخته تنظر إليه مثل تلك النظرة العطوف الممتنة، فشعر بالغبطة تهدر في قلبه.
خرج حسين من الغرفة خلسة في الظلام، ومشى على رؤوس أصابع قدميه. لقد أضحى قريبا من شجرات البرتقال. وجاشت نفسه بسعادة غامرة ممزوجة بالخوف. ومد حسين يده إلى نطاقه، فأحكم شده، وتسلق الشجرة، وجعل يقطف برتقالاته بسرعة إنه لا يدري كيف يفارق شجراته الحبيبة، لقد إنجاب الظلام، وعليه أن يعجل بالعودة، وهبط من الشجرة. ومثل في وهمه أن أقدامه قد أحدثت صوتا شديدا مسموعا، فقد نبحه كلب من بعيد، فركض بجماع قوته، وتعثر بحجر أمامه، فانكب على وجهه،وسقطت منه بعض برتقالات ،ونهض خفيفا، ونظر إلى الخلف نظرة مذعورة، فرأى أشباحا تتحرى في اتجاهه، وجعل يعدو وراحتاه على صدره، وتجاوز الحدود قليلا ودَوَّى طلق ناري قريب، تراه أصيب ؟
وتلمست يده المرتجفة كتفه المصابة، فتخضبت بالدم. إنه لا يشعر بالألم، ولكن قواه تكاد تخذله، ولقد نضب ريقه في فمه، وتحدر العرق من جبينه غزيرا.
وتعالت طلقات متتابعة، وندت عنه آهة جريحة، لقد أصابته رصاصة في الصدر، إنه لا يرى شيئا، إنه يرى أخته مضطجعة، وكأس البرتقال تهتز في يدها، ويرى أمه غاضبة ثائرة تعنفه، وأباه يهز رأسه إشفاقا.
كانت أشعة الشمس في الصباح أول من قبل وجهه وهو ملقى على الأرض دون حياة، والى جانبه جثمت برتقالات تافهة،
وقد تلوثت بالدم، وكانت برتقالة صريعة نفذت من قلبها رصاصة، وسال عصيرها الشهي فعانق دما نديا أحمر، ثم انساب على التراب الحزين
منشورات اتحاد الكتاب العرب
كل الود لكم الحر الطليق
قصـة رآقيـة بمعـآنيهـآ
أنرت بـ طرح موآضيعك
ربي يعطيك العـآفيـة
ودي..//~