بسم الله الرحمن الرحيم
( قصـــة قصيـــرة )
القلـــوب حيــن تتصحــر ؟!
|
||
( القصة للكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد )
( القصة للكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد )
قال : يا قبر عجل بالنداء فإني قد تعبت من الهوان .. أحصد الغربة في أرض والأهل بالجوار .. تلك صيحات نابعة من عمق رجل يحترق حزناَ وألماَ .. تنادي بها السريرة دون أن يجاهر لسانه بالنداء .. فهو ذلك الكهل الذي يجلس في زاوية من زوايا البيت وحيداَ يجترع الذكريات .. وإذا جرى السؤال من أهل الخير والفضل استجابت رحابة الوجه وأجاب اللسان بالحمد والثناء .. والناس تسأل عن الأحوال إشفاقاَ وحرصاَ .. والأبناء هم كانوا أحق بذلك السؤال .. فهم الأجدر والأولى في موجبات البر والشفقة والإحسان .. شربوا عصارة العمر والشباب نهماَ حين كان العطاء منه دون حد وإمساك .. ثم انفضوا من حوله عندما أصبح ناحلاَ وهيكلاَ وتفلاَ يشتكي الوهن والويلات .. والشيخ قد كل ومل من الهوان .. وأمنيات نفسه تعجل القبر قبل الأوان .. ينظر إلى آفاق المجهول البعيد نظرة الضعيف المتهالك .. وتفكيره يعجز أن يجاري هلوسة العيون التي تشتكي الضعف والوهن .. والأوصال تشتكي من ضريبة الجهد في ماضي الشباب .. وكل ذلك كان يهون لو أن الأبناء أعطوه ما يحق من العطاء .. وفي عمره ذلك فإن العطاء المطلوب ليس بذلك الصعب العسير المستحيل .. إنما مجرد مردود من صدور تبذل المستطاع وتبادر بالود والحنان .. وكلمة أبي كيف أنت ؟؟ وكيف حالك وأحوالك كلمة تعادل الجبال في معايير ذلك الشيخ .. ولكنهم قد بخلوا بكل شيء حتى بتلك الكلمات القليلة !! .. وتجافوا وابتعدوا بذلك القدر الذي يوازي النسيان .. ومع ذلك فإن الشيمة المألوفة عن ذلك الشيخ الوقور أنه طيب القلب ودمث الأخلاق .. يتظاهر دائماَ بالهدوء وراحة البال .. رغم أنه يحس في الأعماق بذلك القدر الهائل من التهميش والإنكار .. والجوف منه يغلي من مرارة القسوة وسوء المآل .. يسأل الذات كثيراَ عن الهفوة والعثرة التي أدت إلى تلك النهايات .. ويراجع خطوات حياته مرارا وتكراراَ فلا يجد خللاً يستحق ويوجب ذلك العقاب .. وقد أدى الواجب نحو أسرته دون خيبة وخذلان .. كما أدى الرسالة والأمانة بمنتهى الإخلاص والوفاء .. فهو ذلك الأب الذي تفانى وأخلص في تنشئة الأبناء تنشئة صالحة ناجحةَ .. كافح وناضل حتى أوصلهم إلى أعلى مراتب الدراسات الأكاديمية والثقافية .. وحين كبروا أصبحوا رجالاَ يملكوا صيت النجاح تلو النجاح .. يشار إليهم بالبنان .. فهم الآن يملكون تلك المكانة العالية في الساحات .. وأصبح لهم الصيت في ميادين التجارة والأعمال .. يملكون الكثير من المؤسسات والشركات .. وقد عاونهم الوالد كثيراَ عندما كان يملك في تحقيق تلك النجاحات .. وفي مرحلة من المراحل تنازل عن ممتلكاته لتكون تلك الممتلكات باسم شركة الأبناء .. غير أنهم كانوا يتراجعون يوماً بعد يوم عن معنويات العشرة السامية والأجنحة المنخفضة .. حين أصبحت الماديات هي الفطرة المشاغلة لهم ليلاَ ونهاراَ .. وبدءوا يتخاذلون ويتراجعون عن الوفاء والالتزام نحو الوالد الذي كان لهم السند في كل مراحل النماء والنشأة .. وهو ما زال على قيد الحياة .. وقد تهاونوا كثيرا في ذلك الواجب المقدس .. واجب الأبناء حيال الآباء .. وبلغ بهم الحال في السنوات الأخيرة غاية العقوق حين تناسوا أمره كلياَ .. وتجاهلوا تواجده ضمن الأحياء .. وقد مالوا ميلة الغافلين حين أسرفوا وجعلوا كل اهتماماتهم في الحياة هي تلك التجارة والأعمال .. متناسين ومتجاهلين أوامر السماء حيال الأبوين .. تلك الأبوة التي تقتضي البر والإخلاص والوفاء حتى مشارف القبر وبعد القبر .. فقد ذلك الأب المغلوب على أمره رفيقة حياته .. وبقي وحيداَ يصارع الوحدة والوحشة والهوان .. تمر عليه الشهور والشهور دون أن يمر عليه أحد من الأبناء أو الأحفاد يسأل عن أحواله ويؤانسه من الوحدة والوحشة .. وهو في أعماقه دائماَ يحن ويتوق أن يتواجدوا بالجوار .. وذلك التهميش والإهمال يحسسه دائماَ بأنه عبئ وعالة على الحياة وعلى الآخرين .. ويحسسه بأن الجميع قد يئسوا من تواجده في الحياة ويتعجلون نهاية المطاف .. وذلك الإحساس كان يشق عليه كثيراَ .. وهو إحساس يجلب الهم والغم في الوجدان .. فكان دائماَ يحاور النفس عن ذلك المصير والنهاية الكئيبة .. وفي إحدى المرات جلس وحيداَ يفكر في محنته وإنفراده ثم تذكر تلك الآية الكريمة ( ولا تقل لهما أف ) ثم قال في نفسه حتى ذلك ( التأفف ) نحن قد حرمنا منه حين أوصدوا كل أبواب التواصل !! .
……………. وفي ذات يوم حضر الأبناء في عجالة إلى ( البيت الكبير ) .. وذلك المسمى هو المتعارف بينهم عن ساحة العش الأول .. مكان المولد والنشأة الأولى .. وقد نموا وترعرعوا في ذلك البيت .. وهو البيت الذي يمثل في الوقت الحاضر تلك السعة الفارغة .. حيث يفقد عنصر الإنسان والحركة .. إلا ذلك الشيخ الكبير .. وقد انفرد الشيخ في مراحل عمره الأخيرة إنفراد البعير المجرب .. والأحوال قد تبدلت .. يفقد الصحبة ويفقد الأبناء ويفقد السند .. وتلك رفيقة العمر قد رحلت إلى الدار الآخرة .. وهؤلاء الصغار قد كبروا وبلغوا مراحل الرجولة .. ولبوا نداء الفطرة حين أوجدوا الكيانات الخاصة .. وأسسوا البيوت والأسر .. مرحلة توجبها الحياة حيث لزوم التفرع والانتشار .. كأفراخ الطير عندما تمتلك الأجنحة والمقدرة فإنها تهاجر العش الكبير .. تبحث عن جديد الحياة في أعشاش المستقبل .. وقد هجر هؤلاء الأبناء ذلك العش واحداَ تلو الآخر .. ثم أوجدوا لأنفسهم جديد المأوى وجديد الرفقة .. إلا أن الهجرة منهم كان فيها الكثير من الجفاء وقلة الوفاء .. لأنهم تناسوا واجب الأبناء حيال الآباء .. ذلك الخيار المقدس .. وتراخوا عن الوفاء والبر بالوالد المتبقي على قيد الحياة .. وفي خضم الركض تناسوا أمر السماء وأمر الوفاء .. وحين عادوا للبيت الكبير في ذلك اليوم لم يكن الدافع لهم زيارة ذلك الشيخ المهمش المنسي .. ولكنهم عادوا لحاجة في نفس يعقوب .. ورغم تلك الغيبة الطويلة لم يبادروا الشيخ الجليل بالأعذار والأسف على التقصير .. كما لم يبذلوا حرفاَ واحداَ يدل على إحساسهم بفرحة اللقاء بعد الغيبة الطويلة .. إنما بذلوا فقط تلك المراسيم العادية من التحيات والسلام .. ثم في عجالة دخلوا إلى غرفة مجاورة لعقد اجتماع طارئ بين الإخوان .. ولم يكن الأب طرفاَ ملزماَ في ذلك الاجتماع .. لأنه لا يمثل رقماَ مؤثراَ في المجريات .. وهم يواجهون ظروفاَ صعبة حين انهارت أعمال التجارة بسب انهيار الاقتصاد العالمي .. وكان الشيخ يجلس هنالك وهو يستمع حوار ونقاش الأبناء في الداخل .. كانوا يتحاورون ويتجادلون بحدة .. والأصوات تعلو ثم تخفض .. وأخير استقر رأيهم بالإجماع على بيع ذلك البيت الكبير ليسددوا بالقيمة جزءَ من الديون المتراكمة عليهم .. وحين اتفقوا على ذلك القرار هدأت الأصوات قليلاَ .. ولكن في خضم النقاش والترتيبات الأخيرة سأل أحدهم حائراَ : وماذا سيكون من شأن الشيبة ؟؟ !! .. تلك العبارة المجردة الجافية .. ولم يقل ماذا سيكون في مصير الوالد المبجل .. فكانت الإجابات بالإجماع غير مبالية كثيراَ وغير مكترثة .. حيث القول ( أمر الشيبة هين وسهل !! ) .. ثم فجأة غادروا البيت الكبير في عجالة كما جاءوا .. وفي تلك اللحظات بكى الشيخ طويلا .. إلا أن البكاء الأشد جاء بعد أسبوع من ذلك الحدث الأليم .. حين طرق طارق باب البيت الكبير .. ولما فتح الباب طلب منه ذلك الطارق أن يغادر البيت فوراَ لأنه هو المشتري الجديد !! .. لملم بعض أغراضه الخفيفة ثم التزم الأرصفة في الشوارع .. وهو ما زال ينادي ويردد قولته الشهيرة : يا هذا القبر عجل فإني قد يئست وأريد الرحيل .
……………. وفي ذات يوم حضر الأبناء في عجالة إلى ( البيت الكبير ) .. وذلك المسمى هو المتعارف بينهم عن ساحة العش الأول .. مكان المولد والنشأة الأولى .. وقد نموا وترعرعوا في ذلك البيت .. وهو البيت الذي يمثل في الوقت الحاضر تلك السعة الفارغة .. حيث يفقد عنصر الإنسان والحركة .. إلا ذلك الشيخ الكبير .. وقد انفرد الشيخ في مراحل عمره الأخيرة إنفراد البعير المجرب .. والأحوال قد تبدلت .. يفقد الصحبة ويفقد الأبناء ويفقد السند .. وتلك رفيقة العمر قد رحلت إلى الدار الآخرة .. وهؤلاء الصغار قد كبروا وبلغوا مراحل الرجولة .. ولبوا نداء الفطرة حين أوجدوا الكيانات الخاصة .. وأسسوا البيوت والأسر .. مرحلة توجبها الحياة حيث لزوم التفرع والانتشار .. كأفراخ الطير عندما تمتلك الأجنحة والمقدرة فإنها تهاجر العش الكبير .. تبحث عن جديد الحياة في أعشاش المستقبل .. وقد هجر هؤلاء الأبناء ذلك العش واحداَ تلو الآخر .. ثم أوجدوا لأنفسهم جديد المأوى وجديد الرفقة .. إلا أن الهجرة منهم كان فيها الكثير من الجفاء وقلة الوفاء .. لأنهم تناسوا واجب الأبناء حيال الآباء .. ذلك الخيار المقدس .. وتراخوا عن الوفاء والبر بالوالد المتبقي على قيد الحياة .. وفي خضم الركض تناسوا أمر السماء وأمر الوفاء .. وحين عادوا للبيت الكبير في ذلك اليوم لم يكن الدافع لهم زيارة ذلك الشيخ المهمش المنسي .. ولكنهم عادوا لحاجة في نفس يعقوب .. ورغم تلك الغيبة الطويلة لم يبادروا الشيخ الجليل بالأعذار والأسف على التقصير .. كما لم يبذلوا حرفاَ واحداَ يدل على إحساسهم بفرحة اللقاء بعد الغيبة الطويلة .. إنما بذلوا فقط تلك المراسيم العادية من التحيات والسلام .. ثم في عجالة دخلوا إلى غرفة مجاورة لعقد اجتماع طارئ بين الإخوان .. ولم يكن الأب طرفاَ ملزماَ في ذلك الاجتماع .. لأنه لا يمثل رقماَ مؤثراَ في المجريات .. وهم يواجهون ظروفاَ صعبة حين انهارت أعمال التجارة بسب انهيار الاقتصاد العالمي .. وكان الشيخ يجلس هنالك وهو يستمع حوار ونقاش الأبناء في الداخل .. كانوا يتحاورون ويتجادلون بحدة .. والأصوات تعلو ثم تخفض .. وأخير استقر رأيهم بالإجماع على بيع ذلك البيت الكبير ليسددوا بالقيمة جزءَ من الديون المتراكمة عليهم .. وحين اتفقوا على ذلك القرار هدأت الأصوات قليلاَ .. ولكن في خضم النقاش والترتيبات الأخيرة سأل أحدهم حائراَ : وماذا سيكون من شأن الشيبة ؟؟ !! .. تلك العبارة المجردة الجافية .. ولم يقل ماذا سيكون في مصير الوالد المبجل .. فكانت الإجابات بالإجماع غير مبالية كثيراَ وغير مكترثة .. حيث القول ( أمر الشيبة هين وسهل !! ) .. ثم فجأة غادروا البيت الكبير في عجالة كما جاءوا .. وفي تلك اللحظات بكى الشيخ طويلا .. إلا أن البكاء الأشد جاء بعد أسبوع من ذلك الحدث الأليم .. حين طرق طارق باب البيت الكبير .. ولما فتح الباب طلب منه ذلك الطارق أن يغادر البيت فوراَ لأنه هو المشتري الجديد !! .. لملم بعض أغراضه الخفيفة ثم التزم الأرصفة في الشوارع .. وهو ما زال ينادي ويردد قولته الشهيرة : يا هذا القبر عجل فإني قد يئست وأريد الرحيل .
( القصة للكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد )
ـــــــ
الكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد
الكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد
:020104_emm11_ prv: