تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » قراءة في قصيدة ذاك المساء

قراءة في قصيدة ذاك المساء 2024.

قراءة في قصيدة " ذاك المساء "
للشاعرة فدوى طوقان
القصيدة، كما يتراءى للقارئ المثقف نتاج ثقافات مختلفة اكتسبتها الشاعرة في مختلف أطوار حياتها. فإنك قلما تجد مقطعا ليس مفعما بالتدفق النفسي الثقافي والاشارات والرموز العميقة المحيطه بجميع أبعاد القصيدة. أنها حصيلة تفاعل واحتكاك مستمرين لثقافات عميقة فالرموز المحيطه بعالم القصيدة هي التي جعلتها مكتنفة بالغموض وذلك لأنها بمثابة عملية لاصطياد الرؤيا العميقة التي تكمن في أعماقها. فالشاعر الحديث ليصبح ذا رؤية عميقة يجب أن يتشبع بالثقافات وذلك طبعا لتكتمل الرؤية لديه وليدرك واقعه الحضاري من جميع الأبعاد. أنه يجب أن يكون (ذلك المثقف الحالم) على حد تعبير سيجموند فرويد.
تقول فدوى :
ذاك المساء
والشارع الممدود تسحب فوقه شمس الخريف
هزما بقايا من ضياء
والصمت يحتضن المكان
سوى رفيف أشجاره .. وخطى لبعض العابرين ..
ساروا هناك على الرصيف
ساروا بلا قصد بلا هدف ..
حيارى تائهين
فذاك المساء المخيم على الشارع الممدود الذي يكتنفه الصمت وبعض خطى العابرين، الذين ساروا على الرصيف بلا هدف بلا قصد حيارى تائهين، على هذه المناظر الحزينة التي عاشتها الشاعرة في لحظة من لحظات حياتها بعد حكاية الحب الذي قد دفنته – كما سيتضح لنا أخيرًا – إنها هنا بهذه الرؤيا النقية والموسيقى الداخلية ترمز إلى اللحظة المؤلمة التي عاشتها في هذا الوجود ، لحظة مفعمة بالقلق والتمزق ، إنه ذلك التفجر المأساوي الداخلي الذي يكشف لنا عن عمق التجربة في حالة فقدان الحب> كل ذلك بأسلوب هادئ متواصل النبرات متصل الأعصاب بدون أدنى صخب أو أنين صوتي ، إنه عملية تسرب داخلي لا نشعر به إلا بعد انتهائنا من القصيدة والغوص في أعماقها :
لم أدر فيم وقفت فيم تسمرتْ
قدمي على ذاك الرصيف
لم أدر ماذا شدني عند الجدار
هل كنت أبحث في ضياعي عن وجودي
هل كنت في قلق الحياة
ذاك المساء أسعى بأعماقي إلى شيء بعيدْ
أسعى إليه
أود لو ألقاه لكن لا أراه.

كان الفراغ يحط في عيني ثقله
وتفاهة الأشياء تلقى ظلها الخاوي بنفسي
وتلف أيامي البطيئات المملة
فحكاية الحب التي أنهيتها
شيعتها ودفنتها من أمس أمس ِ

ها نحن قد مرت علينا> عشرون يومًا فارغًا
مرت علينا عشرون يومًا ما التقينا
ووقفت ماذا لو يمر الآن بى ؟
أنا كيف ألقاه لو التقت العيون
أنا لن أمد يدي إليه
لن يحركني فرح ذاك الجنون
ما عاد مثل الأمس يبدع لي الفرح
سارد عن عينيه وجهي
لو يمر الآن بي سأظل أرنو للفراغ
كأنه ما مر بي
لا .. لن أبالي لو يمر
وبقيت في ظل الجدار
لم أدر فيم بقيت في ظل الجدار
قدمي مصفدة وطرفي تائه لا يستقر
لاحظوا ذلك التيار القصيدي غير المتقطع ، كل بيت مرتبط بالبيت الآخر إلى نهاية القصيدة :
هو !! وانتفضت
وحاصرت عيناى منعطف الطريق
وقطعت مفترق الدروب
ورحت تدنو من مكاني هي خطوة أو خطوتان
ووقفت في ظل الجدار معي هناك على الرصيف
لم أدر ماذا قلت
كيف تعانقت منا اليدان
ببساطة..
بسهولة..
وتسمرت عيناى في الوجه الذي أدمنته في واقعي المحتوم
في قدري الذي قاومته عشرون يومًا فارغًا
قاومته ورفضته .
نرى الشاعرة لم تدر فيم تسمرت قدماها على ذلك الرصيف ، إنها قوة خفية تلك التي دفعتها بأن تقوم بهذا العمل الإجباري، لتقف على ذلك الرصيف ؛ لكن لماذا !!" وانتفضت وحاصرت عيناي منعطف الطريق " ، هنا نقبض على أعظم فلذة في الشعر الحديث إنها الدهشة ، فالشاعر الحقيقي لا ينظر إلى الأشياء إلا بدهشة يقول سان جون بيرس " يتكشف الشعر على أنه ابن الدهشة الحقيقي " ، وهكذا كان القدر المحتوم هو الذي دفعها إلى أن تقف في ذاك الرصيف لكي ترى رفيقها الذي هو في نظرها قد دفنت حبها له ، إنها عشرون يومًا مذ أن شيعته ودفنته ، إنها هنا تصف بكل دهشة حالة الفراغ التي تحسها بعد أن أنهت حكاية الحب، إذ ليس من الممكن في نظرها أن يبعث المدفون من جديد ، لكنها بالرغم من رفضها لهذا الحب عشرين يومًا فارغًا قاومته ورفضته ، ترى نفسها رغمًا عن كل أساليب الرفض والمقاومة تندفع إليه عند رؤيته بصورة لا شعورية وبلهفة شوق جارف ، ترى نفسها أيضًا تقبله كل ذلك كان رغمًا عن امتناعها المتكرر وتحديها العنيد لقدرها المحتوم ، إنها سلفًا كانت تظن أنه محال .. محال بعث ذلك الحب الذي قد توارى عن عوالمها منذ عشرين يومًا أما الآن فيا للدهشة ، يا لخيبة الظن واليقين ها هي اللحظة الحتمية تشرئب أمامها لتصفع كل ما كان ممكنًا لديها، ذلك المستحيل ذلك الجدار الذي كانت تخاله من قبل قد تراءى لها ممكنًا الآن ولكن ذلك – يا لسخرية القدر – تكسر عن جدار آخر عن مستحيل آخر عن مشكلة كونية أخرى هي في حد ذاتها كيفية إمكانية ذلك المستحيل ، إننا هنا بصورة لا شعورية وكأننا في حلم نرى الشاعرة بهذه الأعصاب الفنية الميتافيزيقية الشعورية تغوص في أعماق الميتافيزيقا . إنها بحق مشكلة الإنسان في البحث وراء مجهول المجهول مشكلة التصادم الكوني كما يقول كامو في عبثيته ، إنها تلهف الإنسان للمعرفة وصمت الطبيعة .
يقول سارتر في هذا المجال أن نقص المعارف الضرورية لتوجيه السلوك الإنساني والقيام بعمليات اختيار معقول أشد خطرًا وأعمق مأساة ومن المستحيل في هذا المنحى الإجابة عن الأسئلة النهائية الكبرى وعديد دوافع اختيارنا .
لا أظن أنني قد أوفيت القصيدة حقها فقد يأتي ناقد حصيف ويستجلي لنا مواطن الروعة الكامنه في أعماقها ، إن عملي الوحيد الذي قمت به ليس إلا سردًا فقط لما أملته علي هذه القصيدة من عوامل ومؤثرات نفسية وثقافية ، وإذا ما عدنا إلى الوزن العروضي نجد أن الشاعرة التزمته هنا في القصيدة ، فالقصيدة موزونة لكنها منطلقة حسب انطلاقة الأفكار وطريقة التداعي ، أما الصخب البدائي الحزين فلا تجد له مكانًا في القصيدة ، لقد حل محل هذا الصخب البدائي اللفظي تلك الموسيقى الانطلاقية اللاشعورية التي تثب من أعماق النفس لتصطدم بالموسيقى الخارجية الصامتة لتوحيد الروح بالمادة .

نقل رائع
والذي صبغ
روعته وهو بريق
ذوقك ما أقول إلا صح
لسان شاعرتها وسلمت
يمينك التي نقلت وأنت كما
عودتنا برقي ذوقك وروعة
الحس ولانتقاء عندك فلا تحرمنا مرة ثانيه

أخي الأستاذ الأديب والشاعر القدير رمح الغرام

سرني كثيراً هذا العبور الكريم والإثراء الماتع بهذا الأسلوب الأدبي الرفيع.

محبتي يا غالي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.