وفي الحوار نفسه يتحدث محمود درويش عن كتاباته النثرية. يقول: ‘كتبت الكثير من النثر لكنني ظلمت نثري لأنني لم أمنحه صفة المشروع. أكتب نثراً على هامش الشعر أو أكتب فائضاً كتابياً أسميه نثراً. ولكن لم أولِ النثر الأهمية التي يستحقها، علماً أنني من الشديدي الانحياز إلى الكتابة النثرية. والنثر لا يقل أهمية عن الشعر. بل على العكس، قد يكون في النثر مساحة من الحرية أكثر من الشعر’.2
من يدقق في هذا الكلام المنوه عنه أعلاه، يدرك أن درويش ظلم نثره بالفعل لأنه لم يمنحه صفة المشروع، لكنه ظلم نفسه أيضاً وهو يقول: إنه كان يكتب نثراً على هامش الشعر، أو أنه كان يكتب فائضاً كتابياً يسميه نثراً. فالنثر كان له دور غير قليل في تجربة محمود درويش الكتابية. ذلك أن درويش عمل طويلاً في الصحافة وفي الدوريات الثقافية، وتبوأ مواقع مسؤولة في صحف ودرويات، كانت آخرها مجلة الكرمل التي كان رئيس تحريرها مدة خمس وعشرين سنة.
وهو لم يكن يستغني لحظة عن كتابة النثر، سواء للصحف أم للدوريات، ومارس طويلاً كتابة المقالة السياسية، والمقالة الفكرية، والنص الأدبي، كما مارس كتابة الرسائل التي تبادلها مع الشاعر سميح القاسم، وكانت تنشر تباعاً في مجلة ‘اليوم السابع’ ثم نشرت فيما بعد في كتاب. وألقى كلمات ومداخلات فكرية وأدبية وسياسية في مناسبات شتى. في رثاء الراحلين من أصدقائه القادة السياسيين ومن المثقفين والكتاب والفنانين، في حفلات التكريم أثناء منحه الجوائز الأدبية أو أثناء توقيع كتبه، أو أثناء مشاركته في الندوات الثقافية وغير ذلك كثير، وهي الكلمات والمداخلات التي اصطفى منها ما نشره من مقالات مختارة في كتابه ‘حيرة العائد’3. وكان من قبل قد اصطفى من مقالاته التي نشرها في صحف ومجلات مثل ‘السفير’ و ‘الوطن العربي’ و ‘اليوم السابع’، ومن الافتتاحيات التي نشرها في مجلتي ‘شؤون فلسطينية’ و’الكرمل’، ما نشره في كتابه: ‘في وصف حالتنا’4 .
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فإن كتاب ‘ذاكرة للنسيان’ الذي سأتطرق له بتفصيل أكبر، يعتبر عملاً أدبياً مهماً، تتخلله مشاهد من السيرة الشخصية لمحمود درويش، علاوة على استيعابه لأشكال أخرى من المعرفة والثقافة والقضايا التي تجعله من بعض الوجوه، يتقاطع مع فن الرواية ويستفيد من تقنياتها إلى حد كبير.
وقد يسأل سائل: لماذا لم يكتب محمود درويش سيرته الذاتية على غرار بعض الكتاب الفلسطينيين والعرب؟ وسيجد الجواب في كتابات محمود درويش الشعرية والنثرية، سيرى بعض تفاصيل هذه السيرة، مبثوثاً هنا وهناك على نحو خافت حيناً، وعلى نحو واضح حيناً آخر. بل إن كثيراً من شعر محمود درويش ونثره مبني على وقائع من حياته الشخصية، ولا يندر أن نجد ذكراً لأمه ولأبيه ولجده ولبعض إخوته في قصائده وفي بعض أعماله النثرية. ولا يندر أيضاً أن نجد وقائع محددة عاشها محمود درويش، تتكرر في غير كتاب من كتبه، مع توظيف مختلف لها في كل مرة، أو تناول أكثر غنى وامتلاء في كل مرة.
ولعل التصريح الأكثر دلالة حول السيرة الذاتية للشاعر، ما ورد في كتابه ‘في حضرة الغياب’5 حينما كان يستمع إلى الخطابات التي ألقيت في حديقة البيت الأبيض الأمريكي أثناء الاحتفال بتوقيع اتفاق أوسلو بتاريخ 13 / 9 / 1993. قال محمود درويش وهو يخاطب نفسه: ‘لكن اللغة التي تسمعها تعيد قلبك إلى صوابه: لا، ليست هذه لغتي. فأين بلاغة الضحية التي تسترجع ذاكرة عذابها الطويل، أمام شقاء اللحظة التي ينظر فيها العدوّ في عين العدوّ ويشدّ على يده بإلحاح؟ أين أصوات القتلى السابقين والجدد الذين يطالبون باعتذار لا من القاتل فحسب، بل من التاريخ؟ أين حيرة المعنى في لقاء الضدّ بالضد؟ وأين الصرخة الملازمة لعملية جراحية يُبْتَرُ فيها الماضي عن الحاضر في مغامرة السير إلى غد ملتبس… وأين لغتي؟’ص142 . ثم يقول بعد ذلك مباشرة: ‘ألهذا كان ردك الشخصي هو الدفاع الشعري عن الحبكة والذاكرة؟ فكتبت أصداء سيرة شخصية- جماعية، وتساءلت: لماذا تركت الحصان وحيداً؟’ ص142
ولعلنا نلاحظ انطلاقاً من التصريح نفسه المنوه عنه أعلاه، أن درويش لم يذهب إلى حد كتابة سيرة وإنما أصداء سيرة. ولنتذكر أن نجيب محفوظ أيضاً لم يكتب سيرته الذاتية بعد رحلة طويلة مع الكتابة الروائية والقصصية، بل إنه بادر في سنواته الأخيرة إلى كتابة ‘أصداء السيرة الذاتية’.
وأثناء تتبعي لملامح السيرة الذاتية في ثلاثة من كتب محمود درويش هي: يوميات الحزن العادي6، ذاكرة للنسيان7، وفي حضرة الغياب، لا بد لي من التذكير بأمر بات معروفاً، وهو أن محمود درويش مال على نحو بارز في كتابيه ‘ في حضرة الغياب’ و ‘أثر الفراشة’8، إلى المزج بين الشعر والنثر في صياغات جديدة، لا تكتفي بالشعر وحده ولا بالنثر وحده. وقد تحدث عن ذلك صبحي حديدي، مؤكداً على أن النثر الشعري كان موجوداً في أعمال أدبية سابقة لمحمود درويش، وانطلاقاً من ذلك يقول: ‘ومن جانبي كنت أرجّح أنّ ما في جعبة درويش من جديد في سياقات هذا الإشتغال، وربما في صيغة ‘النصّ الشعري المفتوح’ تحديداً، وافر وغنيّ، على نحو أتاح لي أن أغامر باجتراح نبوءة من نوع ما، مفادها أنّ هذا الإنهماك سوف يثمر المزيد من الأعمال ضمن الأسلوبية ذاتها. ولم يطل الوقت حتى صدرت مجموعة ‘في حضرة الغياب’، 2024، ويوميات ‘أثر الفراشة’، 2024؛ وفيهما يبلغ التواشج بين شعرية النثر ونثر الوزن أوجاً غير مسبوق، ضمن تصميم من جانب الشاعر، عالي القصدية وحصيف الموازنة. ولقد رحل درويش في طور مبكّر من ارتقاء ذلك التواشج، ولم يغادرنا في إهاب شاعر كبير فحسب، بل كان ويظلّ أحد كبار ناثري الوزن في تاريخ الشعر العربي؛ وهمو ليسوا كثرة، للأسف، بل قلّة قليلة!’ 9
في كتابه ‘يوميات الحزن العادي’، يكتب محمود درويش عن معاناة الناس في فلسطين 1948 / وفي فلسطين 1967.كانت صورة المعاناة ما زالت متوقدة في ذهنه، فهو حديث عهد بالخروج من هناك، وهو يعيش سنواته الأولى في المنفى الذي دفعته إليه معاناته الشخصية من سجانيه وقامعي حلمه الذين هدموا قريته وأقاموا على أنقاضها مستوطنة. يكتب عن مذبحة كفر قاسم مثلما يكتب عن القدس وغزة.
يكتب نصاً على شكل حوار يجريه شخص مع شخص آخر أو مع نفسه، وهو يضمّن النص مقاطع من سيرته الذاتية، حينما اضطر إلى النزوح مع أفراد أسرته، من قريتهم والتوجه إلى الشمال، نحو لبنان والبقاء فيه ما يقارب العام، ثم العودة تحت جنح الصمت والظلام إلى القرية التي لم يعد لها وجود، والعيش في البلاد بشكل ‘غير مشروع’ من وجهة نظر الذين اغتصبوا البلاد. هذه المقاطع من السيرة يذكرها محمود درويش في هذا الكتاب على نحو قريب من الصيغة الإخبارية، حيث الوقائع المتسمة بالوضوح، وذلك انصياعاً لمنطق الكتاب الذي تتخذ مادته السياسية وتأملاته في الحياة واستخلاصاته من التجربة المعيشة، شكل النص الواقعي الذي لا ينتبه إلى الاقتصاد في اللغة، حيث في هذه الحالة المعنية لا داعي للاقتصاد، بل من واجب الراوي أن يروي حكايته بتمهل وبتفصيل وإسهاب. وجماليات اللغة تقع هنا في المحل الثاني من اهتمام الكاتب. ثمة جماليات وثمة شعرية في لغة النص (التكرار لخلق إيقاع شعري/ مثلاً: هنا ينامون ص81) ، لكنها ليست مطلوبة إلى الحد الأقصى الذي نجده في كتاب ‘في حضرة الغياب’ حينما نقارن ما كتبه عن الخروج إلى لبنان في هذا الكتاب الأخير وفي الكتاب الذي نتحدث عنه الآن.
‘كنا ننتظر انتصار الجيوش العربية على الغزاة خلال أسابيع ونعود بعدها إلى البروة. لم نسكن مخيماً، مررنا في رميش، ثم بتنا ليلة في بنت جبيل التي ازدحمت بصراخ المنفيين وكانت حظيرة بشرية. كانت الليلة الثانية التي نبيتها خارج البيت. الليلة الأولى كانت في أحد مضارب البدو في الجليل حيث أكل عشرات من ‘الضيوف’ بيضاً مقلياً من إناء واحد. وفي جزين –حيث أقمنا- رأيت السواقي التي تسكن البيوت، ورأيت الشلال. وحين اشتد البرد هناك انتقلنا إلى الدامور وعبرنا كروم الموز، ولعبنا على الشاطئ، وسبحنا في البحر. عبرت الشارع الواسع يوماً قبل أخي الذي لحق بي، فضربته سيارة لم تصبه بجروح ولكنها أصابته بذهول لم ينج منه إلا بعد سنين.’ (يوميات الحزن العادي ص17)
بينما ‘في حضرة الغياب’ جرى التعبير عن النزوح إلى لبنان، بنثر يضاهي الشعر في جمالياته، إذ يقول وهو يخاطب نفسه: ‘تنتحي ركناً قصياً على صخرة مهجورة على البحر اللبناني. تبكي كأمير صغير أنزلوه عن عرش الطفولة، قبل أن يُلَقِّنُوه فِقْهَ الرُشْد التدريجيّ، ودرس الجغرافيا الضروريّ لمعرفة المسافة بين ‘هنا’ و ‘هناك’: يا بحر، يا بحر… ولا تفلح في تركيب النداء الكافي، لكن حرف الحاء يدرّب الحلق على بُحَّة الملح: يا بحر، يا بحر! وتبكي، فيذوب قليل من الملح الصاعد إلى العينين، وتتضح وُجْهة النداء: يا بحر، يا بحر.. خذني إلى هناك.’ ص39
في كتاب ‘يوميات الحزن العادي’ يستخدم محمود دوريش عدداً من الوسائط الفنية التي تخدم فكرته، وتساعده على إيصالها إلى القارئ. من بينها إدخال السيرة الشخصية في بنية الخطاب السياسي ومزجهما معاً، حيث إن ثمة تجاوراً بين السيرة والخطاب، فالسيرة الشخصية وما تتضمنه من معاناة إنما هي ناتجة عما ارتكبه المحتلون بحق الشخص الكاتب وبحق وطنه المستباح، والخطاب السياسي إنما هو وصف وتحليل وتفكيك وإعادة تركيب لما جرى لفلسطين جراء الغزوة الصهيونية في العام 1948 وفي العام 1967 .
إلى جانب ذلك، يكثر محمود درويش من الاتكاء على صيغة الحوار الذي يخفف من وطأة المادة السياسية التي يقصد الكاتب تمريرها إلى وعي القارئ، فالحوار الذي يشتمل على قدر من البراعة والرشاقة، يضفي حيوية على المادة السياسية ويحولها من مادة يجري الإخبار عنها إلى مشهد متحرك قابل للتشويق وللإثارة. وحينما لا يلجأ درويش إلى أسلوب الحوار فإنه يستعين بأسلوب السرد القصصي، ويتناول سيرة أشخاص أو وقائع من حياة أشخاص معروفين من لحم ودم من أبناء شعبه، أو من الطرف الآخر الذي يمارس ضد الشعب الفلسطيني القهر والاحتلال.
وهو يستخدم في هذا الكتاب وفي غيركتاب من كتبه، ضمير المخاطب ليتناوب على السرد مع ضمير المتكلم، ما يجعل السرد بعيداً عن الرتابة وإثارة الملل.
‘وليلتها لم تفهم شيئاً، سألت أباك، فنهاك عن السؤال لأنك صغير، وضعوك في قرية مجاورة وذهبوا. وأستاذ التاريخ ينبئك بأنهم لم يطردوا أحداً. وفي جنوب لبنان تصبح لاجئاً تأكل من وكالة الغوث، وتنتظر العودة.’ ص35
وفي هذا الكتاب، نلاحظ سعة اطلاع محمود درويش على الأدب العبري، وعلى الفكر الصهيوني كما تجلى في كتابات قادة صهاينة ومنظرين للفكرة الصهيونية. ولا يندر أن يجد درويش في هذا الكم من الكتب والكتابات، ما هو إيجابي وما يدلل على نظرة موضوعية، وعلى ما يشير إلى ‘صرخة ضمير نادرة أطلقها أديب إسرائيلي قبل أكثر من عشرين سنة، تعطي تحديداً دقيقاً لحقيقة مفهوم الوطن’ ص37 . ويقتطف من كتاب ‘خربة خزعة’ للكاتب الإسرائيلي يزهار سميلانسكي ما يلي: ‘اسمع.. يأتي المهاجرون، ويأخذون هذه الأرض، وتصير جميلة. نفتح حانوتاً، ونبني مدرسة، وكنيساً. وستكون هنا أحزاب، وسنتناقش حول عدة أمور. سنحرث الحقول ونزرعها ونحصدها. وتحيا خزعة العبرية! ومن سيتصور أن خربة خزعة كانت هنا. طردناهم وورثناهم. جئنا، أطلقنا النار، حرقنا، نسفنا، ونفينا’. ص37
في هذا الكتاب تظهر مقاطع أخرى من السيرة الذاتية لمحمود درويش: الاعتقال، السجن، الإقامة الجبرية والذهاب إلى مخفر الشرطة في حيفا مرتين كل نهار لإثبات الوجود. وتظهر مفارقات الوضع الذي كان يعيشه محمود درويش مع البقية الباقية من أبناء شعبه الذي ظلوا مقيمين في وطنهم.
ومن هذه المفارقات، أن ملامح محمود درويش لم تكن توحي بأنه عربي، وحينما يوقف سيارة أجرة يقودها سائق يهودي في مدينة حيفا، يعتقد السائق أن محمود درويش يهودي، وحينما يطلب منه بالعبرية أن يوصله إلى شارع المتنبي، يستاء السائق من هذا الاسم العربي ويجاهر بذلك، ثم يكتشف أن الشخص الذي معه عربي، فيحاول التمويه على سوء طويته دون أن يترك له محمود فرصة للتمويه!
وثمة حكايات أخرى ومضايقات يتعرض لها محمود وأبناء شعبه، يتضمنها الكتاب، وهي من النوع المضحك المبكي، وهي كلها تدلل على مدى العسف الذي تعرض ويتعرض له الفلسطينيون على أيدي حكام إسرائيل.
في مجمل هذه النصوص التي اشتمل عليها كتاب ‘يوميات الحزن العادي’ تتخايل ملامح من السيرة الذاتية لمحمود درويش، وستتضح هذه على نحو أشمل في كتابه ‘ذاكرة للنسيان’.
‘ذاكرة للنسيان’ كتاب نثري لم يحدد محمود درويش جنسه الأدبي. حينما نشر النص في العدد 21/ 22 من مجلة الكرمل في العام 1986، كان عنوانه: ذاكرة للنسيان/ المكان آب/ الزمان بيروت. وحينما نشره فيما بعد في كتاب، أعاد ترتيب العنوان على النحو التالي: ذاكرة للنسيان. وعند بداية النص في داخل الكتاب، كتب: سيرة يوم/ الزمان: آب/ المكان: بيروت.
والكتاب يمكن أن يدرج في أدب السيرة، رغم أنه يفيض عنها إلى سواها. فقد حشد محمود درويش ما لديه من قدرة أكيدة على كتابة السرد، واستفاد من فن كتابة الرواية ليقدم عملاً أدبياً متكاملاً، تنتظم مقاطعه الكثيرة المتفاوتة فيما بينها من حيث الطول والقصر، في بنية فنية متماسكة، حيث يبدأ الكتاب بحلم يرى فيه السارد صديقته اليهودية التي التقاها في العام 1969 في حيفا، وهي التي وصف علاقته بها لدى بلوغه الأربعين في العام 1982 كما يلي: ‘وهل كنت حقاً في السابعة والعشرين حين احتكّ نشيد الهوية بنشيد الأناشيد وشبّ حريق في السوسن، وسمعت آخر صرخات الحصان الهاوي من جبل الكرمل إلى البحر الأبيض المتوسط؟’ ص231 (بحسب هذا النص، فإن محمود درويش يقرر أنه من مواليد العام 1942 وليس العام 1941)، ويتكرر الحلم نفسه تقريباً في الأسطر الأخيرة التي تسبق نهاية الكتاب، حيث يرى السارد المرأة نفسها في الحلم، ويدور بينهما الحوار التالي:
‘- هل أحببتني؟
– لا أعرف.
– هل تحبني الآن؟
– لا.
– الرجل لا يفهم المرأة.
– والمرأة لا تفهم الرجل.
لا أحد يفهم أحداً.’ ص240
في ‘ذاكرة للنسيان’ نقرأ سيرة يوم في شهر آب من العام 1982، ونرى رأي العين فداحة الآثار النفسية الناتجة عن القصف الإسرائيلي لبيروت طوال ذلك اليوم، وانعكاس هذا القصف على أمزجة الناس وتصرفاتهم ورغباتهم وأهوائهم. وتتلون أجواء الكتاب عبر السرد المتقن الذي يرصد أدق الخلجات، بألوان ذلك اليوم المقتطع من الجحيم. ومع توتر السرد والسارد يتابع تفاصيل ذلك اليوم، يصل التوتر الذي يعيشه السارد، الذي هو المؤلف محمود درويش، إلى المتلقي ويلقي به في قلب الحالة الموصوفة وفي قلب الجحيم الذي تعيشه المدينة ومن فيها من بشر.
والكتاب لا يكتفي بوصف ذلك اليوم الطويل، ولا يتحدد زمنه بزمن ذلك اليوم، بل هو يفيض عن ذلك كثيراً، حينما يستخدم محمود درويش أسلوب الحلم والتذكر وتداخل الأزمنة واستحضار الذكريات، ويلجأ إلى أسلوب التناص مستخدماً مقاطع من التوراة والإنجيل، ومن كتابات ابن الأثير، ابن كثير، أسامة بن منقذ وسرفانتس، ليطل على المأساة الفلسطينية من زوايا مختلفة، وليقدم لقارئه اجتهادات في الثقافة والفكر والأدب والسياسة وغير ذلك.
وحينما يتطلب الأمر الدخول إلى حيز التفاصيل، فإن محمود درويش يعود إلى ما اعتاده في كتاباته النثرية السابقة، وبالذات في كتابه ‘يوميات الحزن العادي’، لكي يقدم مادة سياسية واضحة المرامي والغايات، متخففة من اللغة الشعرية، إلا بالقدر الذي يخدم الفكرة ويعرضها ناصعة من غير سوء.
يبدأ الكتاب من لحظة حلم بلقاء تم قبل ثلاثة عشر عاماً مع تلك الصديقة، يعقبه الاستيقاظ على كابوس حقيقي قادم من جهة البحر، الجهة التي تطل عليها شقة في الطابق الثامن من عمارة، يقيم فيها محمود درويش.
منذ هذه اللحظة الكابوسية نبدأ في التعرف على معاناة السارد، على عاداته اليومية، على رغبته في فنجان من القهوة، على طريقته في صنع القهوة، على الخطر المتربص به من جهة البحر، حيث البوارج الحربية التي تقصف المدينة، وحيث الطائرات التي تلقي حممها من دون توقف على المدينة أيضاً.
ولا يفلت خيط السرد بعد ذلك أبداً، يأخذنا السارد إلى أمكنة عديدة ويجعلنا نلتقي أناساً عديدين، ولا ينسى عند اللحظة المناسبة أن يعود بنا إلى المكان الذي هو فيه وإلى ما مر عليه من زمن في ذلك اليوم الموصوف. فنراه وهو يخرج من الشقة في الصباح ويدخل بيت الجيران، يعطينا انطباعاً لا لبس فيه عن فكر الزوج وفكر زوجته التي لا تتعاطف مع الفلسطينيين. نراه وهو يمشي في الشارع الموحش، وهو يلتقي في صالة فندق وفي أمكنة أخرى بعض الأصدقاء من الكتاب والشعراء، نراه في مختلف أوقات النهار، وإزاء كل منعطف من منعطفات ذلك اليوم الطويل يتعدد السرد ويتمدد في كل الجهات. وتتخذ لغة السرد لنفسها مستويات متعددة تبعاً للحالة الموصوفة ولما يلزمها من صياغات لغوية. مرة تكون اللغة بسيطة مباشرة تعبر عن وقائع عادية أو تشرح أحوال أناس في الحصار وتحت القصف. ومرة أخرى تكون اللغة شعرية متدفقة حالمة مكتنزة بجماليات الصياغة الأدبية التي تقترب من تخوم الشعر، وما يكتنفه من غموض يتطلبه الشعر.
ويتفاوت حجم المشاهد التي يتضمنها الكتاب. مرة نجد أنفسنا أمام مشاهد خاطفة مكثفة لا تزيد عن بضعة أسطر، ومرة أخرى يستفيض السرد ويأخذ مداه في الوصف وفي تتبع الحالات والمواقف والشخوص.
وقد اتخذ محمود درويش لنفسه مبدأ محدداً تجاه الشخوص، فالذين لم يعودوا موجودين على قيد الحياة، من استشهدوا ومن ماتوا ميتة عادية، نظفر بأسمائهم ونتعرف إليهم بسهولة (كم أجاد محمود وهو يستحضر شخصية الشهيد عز الدين قلق! حيث يتحاور معه حول شؤون الدنيا والآخرة، وكم تألق وهو يسرد قصة كمال والبحر وحيفا والحمامة! وكم كان معنياً بوصف كل ما يحيط ببيروت المحاصرة من مفارقات، حيث يصف لاعب كرة القدم الإيطالي باولو روسي، البارع في إحراز الأهداف، لكي يتحدث بعد ذلك عن مباريات كأس العالم في العام 1982 وما رافقها من مفارقات سخر منها درويش بمرارة!).
وأما الذين ما زالوا موجودين على قيد الحياة، فلن نجد أسماءهم الصريحة، سنجد الحرف الأول من الاسم الأول، أو الحرف الأول من الاسم الثاني لتقديمهم أو للتدليل عليهم. ولم يكن ذلك خالياً من الدلالة أو كأنه جاء من دون تخطيط مسبق من الكاتب. ففي ظني أن محمود درويش قصد من ذلك، تسليط الضوء على الحالة الموصوفة وليس على الشخوص، بحيث لا يتعدى السرد دوره، ليطال الشخص الذي يجري الحديث عنه في حالة محددة. وفي ذلك لملمة مقصودة للأحداث بحيث تصب في الحالة التي قصد درويش إبرازها، وهي حالة بيروت تحت الحصار، وحالة المأساة الفلسطينية وهي تدخل طوراً آخر مفجعاً من أطوارها.
ولعل هذا الأمر ينسحب على محمود درويش نفسه وهو يتحدث عن جوانب من سيرته الذاتية. فهو لا ينحو المنحى المألوف في كتابة السيرة، ولا يميل إلى سرد الوقائع المتتابعة التي يفضي بعضها إلى بعض، ولا يهمه أن يبني تصوراً متكاملاً لطفولته ولمراحل حياته المختلفة، ولوضعه في أسرته ولوضع أسرته في محيطها الجغرافي والبشري، لكي ينتهي إلى تكريس هذه السيرة وتعداد ما حفلت به من نجاحات، وما أحرزه صاحبها من مجد شخصي. إنه لا يفعل شيئاً من هذا، بل يعمد إلى اقتطاع وقائع من سيرته الشخصية، ليدمجها في المنحى العام للمأساة الفلسطينية، ولينطلق مما فيها من خصوصية للدخول إلى ما هو عام، على اعتبار أن هذه السيرة إنما كانت نتاجاً لهذا الوضع العام، وهذا الوضع لا يستقيم عرضه بشكل مقنع وعميق الدلالة إلا عبر التفاصيل التي أنتجها، وهي التفاصيل التي تتشكل منها مع غيرها من التفاصيل غير المسرودة، حياة السارد وماضيه وحاضره.
ولأن هذا الشكل من كتابة ‘ذاكرة للنسيان، ، يمكن اعتباره نصاً مفتوحاً قابلاً لاستيعاب عدد من الأجناس الأدبية وإدماج بعضها ببعض في وقت واحد، فقد اتسع الكتاب لعرض المواقف السياسية الآنية، ولذم الضمير العالمي الذي يتفرج على الفلسطينيين واللبنانييين وهم يذبحون في بيروت، دون أن يحرك ساكناً، ولذم الصمت العربي وتخاذل الأنظمة العربية كذلك. كما اتسع لعرض موقف محمود درويش من الكتابة ومن أدب المقاومة، ولمحاورة الفكرة الصهيونية وتفنيد حججها في تبرير سيطرتها على فلسطين. واتسع كذلك لتأمل علاقة محمود درويش ببيروت، ولعرض مشاهد من الحياة اليومية تحت الحصار لكتاب وأدباء وشعراء، كان لها مذاق خاص، في مجرى تدفق التفاصيل الخاصة بالحالة العامة وما يحيط ببيروت من خطر وموت وقذائف وبوارج وطائرات، وما يجري تناقله من أخبار عن خروج المقاومة من بيروت، في اتفاق يجري إنضاجه بالعمل على تفاصيله إلى أن تحين لحظة التنفيذ.
واتسع الكتاب لعرض مشاهد تتناسب وخصوصية اليوم الموصوف، عن علاقات السارد بالمرأة التي تعرف عليها في حيفا، حيث كانت تظهر في أحلامه، وفي أحيان أخرى كان يتذكرها ويتذكر أمه أيضاً، ما يجعل الكتاب حافلاً بالحضور البشري الذي جرى وصفه في ذلك اليوم، وفي أيام سابقة جرى استحضارها من خلال ذاكرة السارد الذي كان يعيش يومه حتى الثمالة، وهو يهجس ببعض أبيات من قصيدته الطويلة ‘مديح الظل العالي’ التي سيكتبها فيما بعد، بعد الخروج من بيروت.
ولا تغيب من الكتاب المفارقات اللغوية النابعة من ثقافة درويش العميقة، مثلاً: وصفه للسفن التي ستنقل الفلسطينيين من بيروت عبر البحر بأنها ‘سفن نوح الحديثة’ ص238، والإشارة إلى ذلك من خلال رمز الحمامة في نهاية الكتاب، تلك النهاية المتشائمة التي تقول: ‘لا أحب البحر… لا أريد البحر، لأنني لا أرى ساحلاً، ولا حمامة. لا أرى في البحر غير البحر. لا أرى ساحلاً. لا أرى حمامة.’ ص 240 .
ولا بد من وقفة عند النهاية المتشائمة للكتاب، فهي من ذلك النوع من التشاؤم الذي يحرّض على طرح الأسئلة، حيث التناصّ مع التراث ممثّلاً في سفينة نوح التي تقوم برحلة محكوم عليها بأن تنتهي إلى يقين يبشّر بيابسة ترسو عندها السفينة، في حين أنّ نهاية كتاب درويش لا تبشّر بأيّ يقين.
هنا، يتخذ محمود درويش من الواقعة المتمثّلة في خروج قادة منظمة التحرير الفلسطينية ومقاتليها من بيروت على متن السفن عبر البحر، متّكأ لتصعيد نصّه الأدبي إلى أفق أشمل، لنصبح أمام مسألة وجودية ترفض الأجوبة اليقينية، وتأخذنا إلى فضاء الرحلة الإنسانية الباحثة عن المعرفة عبرَ طرْحِ المزيد من الأسئلة.
لهذا يبدو تشاؤم درويش في نهاية كتابه هذا، نوعًا من التعالي على الراهن المؤقت وما يفضي إليه من أفق محدود، لتحقيق رسالة الأدب في طرح الأسئلة المحرّضة على البحث عن الحقيقة، وليس الركون إلى تقديم الأجوبة. ولهذا كان سؤال درويش الكبير بعد بضع سنوات من كتابه هذا: لماذا تركت الحصان وحيدًا؟ مفتتحًا بذلك مرحلة كبرى من مراحل تطوّره الشعري التي عزّزت الحضور الكوني للقضية الفلسطينية.
كذلك، لا تغيب من كتاب ‘ذاكرة للنسيان’، المفارقات الأسلوبية والإحساس المدهش لمحمود درويش باللغة، هذا الإحساس الذي سيجري تكثيفه وتطويره نحو ذرى جديدة في كتابه المتميز ‘في حضرة الغياب’ الذي مزج فيه الشعر بالنثر، وتبدت فيه سيرته الذاتية على نحو مختلف عما سبق من كتب السيرة الذاتية في أدبنا الحديث.
في هذا النص، ‘في حضرة الغياب’، يمتزج النثر بالشعر، ويقيم محمود درويش البنية الفنية لنصه انطلاقاً من السيرة الذاتية، غير المقصودة لما فيها من وقائع، غير المكتفية بوقائعها، وإنما التي تتكئ على الوقائع لتحلق في عالم من التأملات والرؤى التي لا تخص ذاته الفردية المشغولة وحدها بتفاصيل العيش اليومي، وإنما تتعالى لتصبح تعبيراً عن الذات الإنسانية في صراعها مع أسئلة الحياة والموت، والوجود والعدم. وهي المكتوبة بحسية عالية، وبلغة يتبارى فيها النثر بكل جدارة مع الشعر، ويتناوب الشعر مع النثر على تقديم الحالة الموصوفة التي تبدأ من لحظة انفصال الشاعر عن الشخص الذي كانه، حيث يموت الشخص ويبقى الشاعر (أو كما قال إلياس خوري: كان المثنى حيلة درويش الأخيرة لاكتناه العلاقة بين البداية والنهاية. الشاعر الحديث ينقسم اثنين، لا ليبكي، إنما ليكتشف سر العلاقة المعقدة بين الموت والحياة. لذا يدمجهما في نسيج رؤيوي، ويحركهما في خيطان متقاطعة)10
نحن الآن أمام جثمان الشخص، وانطلاقاً من هذه اللحظة الفاصلة تنداح وقائع دالة من سيرة محمود درويش، في لغة مكثفة محسوبة بدقة. ولا يقوم الشاعر بنثر سيرته على الطريقة المألوفة. فليس ثمة استطراد في سرد الوقائع، ولا انتساب إلى الأسرة بالطريقة المألوفة، ولا إشارة إلى العلاقة مع الأب أو الأم أو بقية أفراد الأسرة إلا على نحو محدود، هو الذي يخدم غرض الشاعر، للذهاب عميقاً في مسألة الحياة/ الموت، وفي موضوعة الوطن بتجلياته المختلفة، بدءاً من لحظة الولادة حيث ‘لم يصدق أحد من الجالسين في ظل شجرة التوت أنك ستحيا، من فرط ما شرقت بحليب أمك واختنقت. نحيلاً كنت كخاطرة عابرة’ص11 مروراً بالنزوح المؤقت إلى لبنان والتطرق لأشكال المعاناة التي تعرض لها درويش، وانتهاء بالعودة الناقصة إلى قطاع غزة بعد إبرام اتفاق أوسلو، وإقامة السلطة الوطنية الفلسطينية، وما رافق ذلك من سماح لمحمود درويش بالدخول إلى حيفا، لإجراء حوار متلفز مع إميل حبيبي، غير أن حبيبي يموت في تلك الأثناء، فيأتي درويش إلى حيفا لتأبينه، ومن ثم لزيارة أمه، ولزيارة قبر أبيه وللمرور بالقرب من المكان الذي كانت تقوم عليه قريته ‘البروة’.
ولتتبع الوقائع التي يختارها درويش من سيرته الذاتية لكي يبني عليها كتابه المدهش هذا، سنلاحظ أن بعض هذه الوقائع جرى ذكره في الكتابين السابقين، ولكن في كل مرة بإضافة بعض تفاصيل أخرى، وبأسلوب مختلف، ومن زاوية تضيف جديداً إلى الموضوع نفسه الذي كنا عرفناه من قبل، وبما يتيح للشاعر الإمعان في تأملاته العميقة حول حياة الكائن الإنساني ومصيره.
من أهم الوقائع التي جرى التطرق إليها في هذا الكتاب: النزوح إلى لبنان، التسلل عبر الحدود والعودة إلى الوطن، الحياة في ظل سلطة الآخر، الاعتقال والإقامة الجبرية وما يتفرع منهما، الخروج من حيفا، الإقامة في بيروت ومكابدات أيام الحصار، والعودة الناقصة إلى غزة ورام الله وحيفا.
في وصف النزوح إلى لبنان، يتناوب الشعر والنثر على وصف ذلك، حيث ‘لك ليل على هذا الوادي، فاهبط أسرع من حجل مذعور، الهواء ساكن لا يحرك ريشة، ولا دليل لرحيلك هذا أوضح من غراب يرافق النازحين إلى حدود الليل’. ص33
ويستمر سرد الحكاية على النحو التالي: ‘أما الآن، فلا تنظر إلى النجمة لئلا تخطفك وتضيع. وتعلق بثوب أمك… الدليل الوحيد على أن الأرض تركض حافية القدمين، ولا تبك كأخيك الصغير، المولود منذ أيام، لئلا يرشد البكاءُ الجنودَ إلى جهتنا المرمية في الهواء كيفما اتفق.’ ص34
ولعل من المناسب في هذا المقام، أن نتذكر ديوان ‘لماذا تركت الحصان وحيداً’ 11 لنرى كيف تم وصف النزوح نفسه في هذا الديوان. يقول درويش:
‘إلى أين تأخذني يا أبي؟
إلى جهة الريح يا ولدي…
… وهما يخرجان من السهل، حيث أقام جنود بونابرت تلاً لرصد
الظلال على سور عكا القديم –
يقولُ أب لابنه: لا تخفْ. لا
تخف من أزيز الرصاص! إلتصقْ
بالتراب لتنجو! سننجو ونعلو على
جبل في الشمال، ونرجع حين يعود الجنود إلى أهلهم في البعيد
– ومن يسكنُ البيت من بعدنا
يا أبي؟
– سيبقى على حاله مثلما كان
يا ولدي!’ ص32 ، 33
ولا يكتفي محمود درويش إزاء تجربة السجن، باستعادة بعض تفاصيل التجربة (حجم الأرض هنا متران مربعان لهما باب حديدي دائم الإغلاق. أصوات أحذية غليظة تحمل إليك حساء العدس المطبوخ بالسوس، فتدرك أن نهاراً جديداً قد حلّ ضيفاً على العالم.’ ص61 وإنما يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث يقوم بتأمل ما يعنيه السجن والسجان: ‘السجن هو حرمان الكائن من مشهد الشجرة والبحر. والحرية هي المخيلة القادرة على استدعائهما إلى السجن، وجعل ما ليس مرئياً مرئياً.’ص64
ولعلنا نعود إلى كتاب ‘ذاكرة للنسيان’ لنقرأ عن مكابدة درويش في السجن، موصوفة بلغة واقعية تماماً: ‘واعتدتُ أن أحصي عدد السوس في صحن حساء العدس. الطبق اليومي في السجون. واعتدت أن أتغلب على الاشمئزاز، لأن الشهية تتكيّف، ولأن الجوع أقوى من الشهية. ولكنني لم أتكيّف أبداً مع غياب القهوة الصباحية’. ص29
وفي معرض المقارنة بين ما ورد من وقائع في هذين الكتابين، لا بد من الانتباه إلى ما قاله محمود درويش غير مرة، ومفاده أنه يعود بين الحين والآخر، إلى ما كان هامشياً أو محدود الحضور في كتبه السابقة، ليلقي الضوء عليه من جديد، وينقله من الهامش إلى المركز. فإذا كان هذا الكلام منطبقاً على أسلوب درويش في الكتابة، وأظنه كذلك، فمن المفيد أن نلاحظ كيف ارتقت لغة درويش النثرية المتأملة المشغولة بالوصف، إلى ذرى جديدة. لنقرأ ما يلي في ‘ذاكرة للنسيان’:
‘الماء فرح الحواس وما يحيط بها من هواء. الماء هو الهواء المقطر الملموس المحسوس المغموس بالضوء.’ ص45 ولنقرأ كذلك: ‘الشرفة هي اعتداء الحياة على الموت. هي مقاومة الخوف من الحرب. لا أريد أن أخاف. لا أريد أن أخجل.’ ص234 ولنقرأ أيضاً: ‘النوم سواد يتفكك تدريجياً إلى رمادي وأبيض. النومُ أبيض انفصالٌ وأبيض. استقلالٌ وأبيض. ناعم وقوي وأبيض. النوم صحوة التعب وأنينُه الأخيرُ… وأبيض. للنوم أرض بيضاء وسماء بيضاء وبحر أبيض.’ ص238
ولنلاحظ كيف صعّد محمود درويش في كتابه ‘في حضرة الغياب’ هذا الأسلوب في الكتابة الذي ظهرت بشائره الأولى في ‘ذاكرة للنسيان’ نحو ذرى أبعد وأبعد: ‘المدن رائحة: عكا رائحةُ اليود البحري والبهارات. حيفا رائحة الصنوبر والشراشف المجعلكة. موسكو رائحة الفودكا على الثلج. القاهرة رائحة المانجو والزنجبيل. بيروت رائحة الشمس والبحر والدخان والليمون. باريس رائحة الخبز الطازج والأجبان ومشتقات الفتنة. دمشق رائحة الياسمين والفواكه المجففة. تونس رائحة مسك الليل والملح. الرباط رائحة الحناء والبخور والعسل.’ ص91 ولنقرأ: ‘الحنين مسامرةُ الغائب للغائب، والتفات البعيد إلى البعيد. الحنين عطش النبع إلى حاملات الجرار.’ ص119 ولنقرأ: ‘الفراشات خواطر مبعثرة، ومشاعرُ طائرة في الهواء.’ ص156 ويتكرر ذلك في الكتاب على شكل مقطوعات شعرية حيناً، وعلى شكل جمل نثرية بارعة حيناً آخر.
ولنواصل المقارنات. ففي كتاب ‘ذاكرة للنسيان’ يتحدث محمود درويش عن حادثتين في طفولته: ‘أمي البعيدة تفتح باب غرفتي وتقدم لي القهوة على طبق من قلبها، أداعبها: لماذا أذنت لي أن أضع ركبتي على السكين وأضغط لتبقى معي هذه الندبة؟ ولماذا أذنت لي أن أمتطي الحصان ما دام سرجه سيسقط ليسقطني تحته ولتبقى على جبيني هذه الندبة؟’ ص232
ثم يعود للتحدث عن هاتين الحادثتين في كتاب ‘في حضرة الغياب’ في سياق أشمل وفي إطار تأمل أوسع مدى: ‘هكذا سكنتك منذ البداية فتنة الثعلب والهاوية، وجرّك فضول القطط، دون حذرها، إلى ملامسة الخطر، فغافلت أهلك المشغولين بفرم أوراق التبغ بسكاكين حادة، وتناولت إحداها ووضعت على شفرتها ركبتك اليسرى، وضغطت لتعرف إن كانت السكين تفعل بلحمك الطري ما تفعله بأوراق التبغ، ففاجأك السائل الأحمر. ولم تتوجع إلا حين نزعوا السكين من ركبتك، وضمّدوا جرحك وعاقبوك على طيش التجربة.’ ص18
وأما حادثة السقوط عن ظهر الحصان، فهو يرويها في الكتاب نفسه على النحو التالي: ‘هناك سكنتك فتنة الطيران والعزلة. وهناك، حاولت أن تولد من حلمك، دون أن تدرك الفارق بين الحلم والخيال. في مساء ما، تسللتَ من خلوتك الشجرية إلى بوابة الدار الجنوبية ودعوت الحصان إلى الخروج معك، فأطاعك وخرج. وعلى محاذاة صخرة عالية أوقفت الحصان الفاتن وقفزت على ظهر أملس دون سرج. قادك، كما يقود الهواءُ سحابةً، إلى منحدر يؤدي إلى حقل لا نهاية له. فهمزته فاستجاب، وصار الهواء ريحاً فانتشيت: إني أطير. كل شيء يطير. الشجر، الأرض، الجهات، النباتات، الريح. ولا غاية من هذا الطيران سوى لذة الطيران إلى المجهول، حتى هبط الليل على المجهول وعلى المعلوم، وصار المكان أعمى. لم تعلم أنك قد سقطت. لكن الحصان العائد بلا فارسه الصغير هو مَنْ دلَّ أهلك على موقع طيشك. ضمدوا الجرح في حاجبك الأيمن، ثم عاقبوك.’ ص21
وقد تكرر في كتاب ‘في حضرة الغياب’، حديث محمود درويش عن خروجه من حيفا، فيما يشبه إعادة النظر في هذا الخروج. لنقرأ ما كتبه في هذا الصدد: ‘وقلت: ابتعدت قليلاً لأقترب، فقالوا: هذه هي طريقة النادم في الكلام. فهل ندمتَ حقاً على هذا السفر؟ قلت: لا أعرف ما دمت في أول الطريق.’ص68 . ومرة أخرى يقول: ‘وأصغيتَ إلى صوت فيك يناديك ويرميك بوخز الإبر، كلما وصلتَ إلى مفترق أو منحدر: لماذا… لماذا نزلتَ عن جبل الكرمل؟’ ص75 . ويقول وهو مقيم في القاهرة: ‘لكن، لماذا نزلتَ عن الكرمل؟ يغيب السؤال عن الآخرين ويحضر فيك وحدك، سرّياً خفيّاً كآلام الشبح التي يوقظها عُضْوٌ مبتور. فتقول: كفى هذا. وتنام.’ ص76 . ويقول وهو باقٍ في بيروت بينما خرجت المقاومة من هناك في السفن: ‘وتعترف بأنك أخطأت: لماذا نزلتُ عن الكرمل، ولم أكمل رحلتي مع إخوتي إلى البحر… إلى ما لا أعرف؟’ ص81 . ويقول وهو عائد إلى الكرمل بعد أوسلو: ‘فماذا تفعل حين تصل إلى الكرمل غير أن تسأل: لماذا نزلت عن الكرمل؟ وفي نفسك الأمارة بالحيرة جواب مبهم: لكي أتعلم المشي على طرق لا أعرفها.’ ص154
ثم نصل إلى بيت القصيد حينما يطرح درويش على نفسه أسئلة تصعّد السؤال عن النزول عن الكرمل إلى مستوى إشكالي، وتفتح الباب واسعاً على قلق الكائن الإنساني إزاء معضلة الوجود والعدم، وتضمر في الوقت نفسه إحساساً بعبث الرحلة الإنسانية المحكومة بالموت، حيث يترك محمود درويش هذا الإحساس موارباً، وذلك احتراماً منه لجلال عودته الناقصة إلى الوطن : ‘وعلى الطريق الساحلي تساءلت: وماذا لو بقيتُ في حيفا؟ ماذا لو بقيت في أيّ مكان؟ ماذا لو كنت؟ ماذا لو لم أكن. تتحاشى الوصول إلى الخلاصة: باطل الأباطيل، والكل باطل. فجأة يسقط مطر خفيف يبلل روحك. ‘ ص156
تنتهي السيرة بتأكيد رثاء الشاعر لنفسه، وبتحديد موقفه إزاء الخلود ورغباته تجاه جنازته وتجاه مواقف المعزين. ‘مسجى أمامي بلا ضجيج، هادئاً هادئاً، ولا رأي لك في ما حولك. فوقنا سماء محايدة.’ ص165
وهنا لا بد من الإشارة إلى تشابهٍ ما، في الإطار العام للبنية الفنية في الكتابين: ‘ذاكرة للنسيان’ و ‘في حضرة الغياب’. يبدأ الكتاب الأول بلحظة حلم أثناء النوم، الذي هو ‘موت مجازي’ بحسب درويش، يعقبها صحو حارق على وضع الحصار والقصف الذي تحياه بيروت، وينتهي بلحظة حلم أثناء النوم، حيث يتكرر الحلم الذي كان في البداية، ثم تعقبه لحظة صحو على الرحيل في السفن من بيروت، حيث لا يرى السارد لا ساحلاً ولا حمامة. ويبدأ الكتاب الثاني بلحظة موت تنداح خلالها وقائع من حياة السارد وتأملات في الحياة وفي الموت، وينتهي باللحظة نفسها التي تتكرر، بما يوحي بأن كل ما مر بنا من وقائع وتأملات، إنما كان استرجاعاً في لحظة الموت التي يعود السارد إلى تأكيد وجودها، وإلى استثمار هذا التأكيد بمزيد من التأملات المفتوحة على تأويلات عدة، ثم تعقب ذلك رحلة الكائن الإنساني الأخيرة، حيث ‘أرى طائراً يحملني ويحملك، ونحن جناحاه، إلى ما وراء الرؤيا، في رحلة لا نهاية لها ولا بداية، لا قصد ولا غاية.’ ص180
مجمل القول، إن هذه السيرة لا تعتمد إلا على القليل من وقائع الحياة الشخصية لمحمود دوريش، وهي تأمل فذّ -محمول على جناحي اللغة- في الحياة والموت والوجود والعدم والوطن والكتابة والمرأة والحب. يصدق عليها ما قاله د. محمد عبيد الله: ‘ على هذا النحو ينطلق الشاعر من وقائع حقيقية كما هو الحال في السيرة، لكنه يتحكم بصياغتها وينقلب على حدود السيرة ليتخذ من تلك الوقائع فرصة للجدل مع الموت ومحاكمته وتوطين النفس على احتماله.’ 12 وما قاله أيضاً: ‘ نرى ما يشبه السيرة المواربة، ونكاد ننسب الكتاب إلى السيرة، أو إلى صيغة من صيغ الأدب الشخصي، ولكن درويش أيضاً استخدم هذا النوع بطريقة حرة بعيدة عن مقتضيات الوقائعية السيرية وشروط السرد السيري، إنها سيرة بالنظر إلى أن الكتاب متعلق بحياة درويش وبتأملاته في الحياة.’ 13
إنها سيرة ذاتية، ولكن بأسلوب مختلف، وهي تحرض على مزيد من التأمل والبحث في نثر محمود درويش، وفي ما يشتمل عليه من تجريب عالي الكفاءة، ومن تقنية متفوقة وجماليات.
يعطيك ألف ألف عافيه
على الطرح المميز
ومجهودك الرائع
كل الود لك