تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ 2024.

  • بواسطة
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ

قال تعالى : {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) [آل عمران/185]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِأَنَّ كُلَّ نَفْسٍ سَتَذُوقُ طَعْمَ المَوْتِ ، وَتُحِسُّ بِمُفَارَقَةِ الرُّوحِ لِلْجَسَدِ . وَاسْتَدَّلَ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلَى أنَّ الأَرْوَاحَ لاَ تَمُوتُ بِمَوتِ البَدَنِ ، لأنَّ الذَّوْقَ شُعُورٌ لاَ يُحِسُ بِهِ إلاَّ الحَيُّ ، وَهُوَ تَعَالَى وُحْدَهُ الحَيُّ الذِي لاَ يَمُوتُ . وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُحْشَرُ النَّاسُ إلى الله ، وَتُوفَّى كُلُّ نَفْسٍ أجُورَهَا عَمَّا اكْتَسَبَتْهُ مِنْ أَعْمَالٍ ، فَمِنْ جُنِّبَ النَّارَ ، وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ ، فَقَدْ فَازَ كُلَّ الفَوْزِ .وَالحَيَاةُ الدُّنْيَا لَيْسَتْ إلاَّ مَتَاعاً تَافِهاً زَائِلاً ، صَاحِبُهُ مَغْرُورٌ مَخْدُوعٌ ، وَهُوَ مَتَاعٌ مَتْرُوكٌ يُوشِكُ أنْ يَضْمَحِلَّ عَنْ أهْلِهِ .
" إنه لا بد من استقرار هذه الحقيقة في النفس : حقيقة أن الحياة في هذه الأرض موقوتة ، محدودة بأجل ثم تأتي نهايتها حتما .. يموت الصالحون ويموت الطالحون. يموت المجاهدون ويموت القاعدون. يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذلون للعبيد. يموت الشجعان الذين يأبون الضيم ، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن .. يموت ذوو الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية ، ويموت التافهون الذين يعيشون فقط للمتاع الرخيص.
الكل يموت .. «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» .. كل نفس تذوق هذه الجرعة ، وتفارق هذه الحياة .. لا فارق بين نفس ونفس في تذوق هذه الجرعة من هذه الكأس الدائرة على الجميع. إنما الفارق في شيء آخر.
الفارق في قيمة أخرى. الفارق في المصير الأخير :
«وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» ..هذه هي القيمة التي يكون فيها الافتراق. وهذا هو المصير الذي يفترق فيه فلان عن فلان. القيمة الباقية التي تستحق السعي والكد. والمصير المخوف الذي يستحق أن يحسب له ألف حساب : «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» ..
ولفظ «زُحْزِحَ» بذاته يصور معناه بجرسه ، ويرسم هيئته ، ويلقي ظله! وكأنما للنار جاذبية تشد إليها من يقترب منها ، ويدخل في مجالها! فهو في حاجة إلى من يزحزحه قليلا قليلا ليخلصه من جاذبيتها المنهومة! فمن أمكن أن يزحزح عن مجالها ، ويستنقذ من جاذبيتها ، ويدخل الجنة .. فقد فاز ..
صورة قوية. بل مشهد حي. فيه حركة وشد وجذب! وهو كذلك في حقيقته وفي طبيعته. فللنار جاذبية! أليست للمعصية جاذبية؟ أليست النفس في حاجة إلى من يزحزحها زحزحة عن جاذبية المعصية؟ بلى! وهذه هي زحزحتها عن النار! أليس الإنسان – حتى مع المحاولة واليقظة الدائمة – يظل أبدا مقصرا في العمل .. إلا أن يدركه فضل اللّه؟ بلى!
وهذه هي الزحزحة عن النار حين يدرك الإنسان فضل اللّه ، فيزحزحه عن النار! «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» ..إنها متاع. ولكنه ليس متاع الحقيقة ، ولا متاع الصحو واليقظة .. إنها متاع الغرور. المتاع الذي يخدع الإنسان فيحسبه متاعا. أو المتاع الذي ينشئ الغرور والخداع! فأما المتاع الحق. المتاع الذي يستحق الجهد في تحصيله .. فهو ذاك .. هو الفوز بالجنة بعد الزحزحة عن النار.
وعند ما تكون هذه الحقيقة قد استقرت في النفس. عند ما تكون النفس قد أخرجت من حسابها حكاية الحرص على الحياة – إذ كل نفس ذائقة الموت على كل حال – وأخرجت من حسابها حكاية متاع الغرور الزائل .."
وقال تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) [الأنبياء/34، 35]
"كان المشركون يستثقلون مقام النبىّ الكريم فيهم ، وقد ساقوا إليه من ضروب السّفه ، وألوان الأذى ، النفسي والمادي ، فى نفسه ، وفى أصحابه ، ما لا يحتمله إلا أولو العزم من الرسل .. فلما ضاقوا به ذرعا ، وأعيتهم الوسائل فى صده عن دعوته إلى اللّه ـ كان ممّا يعزّون به أنفسهم ، ويمنّونها الأمانىّ فيه ، أن ينتظروا به تلك الأيام أو السنين الباقية من عمره ، وقد ذهب أكثره ،ولم يبق إلا قليله ، فقد التقى بهم الرسول الكريم وقد جاوز الأربعين ، وها هو ذا صلوات اللّه وسلامه عليه ، لا يزال بينهم وقد نيّف على الخمسين ، وإذن فهى سنوات قليلة ينتظرونها على مضض ، حتى يأتيه النون! وهذا ما حكاه القرآن عنهم فى قوله تعالى : « أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ » (30 : الطور).
فجاء قوله تعالى : « وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ » مسفّها هذا المنطق السقيم ، الذي جعلوه أداة من أدوات الغلب فى أيديهم .. فالموت حكم قائم على كل نفس .. فإذا مات النبىّ ، فليس وحده هو الذي يصير إلى هذا المصير ، وإنما الناس جميعا ، صائرون إلى هذا المصير .. فكيف يكون الموت أداة من أدوات المعركة بينهم وبين النبي ؟ وكيف يكون سلاحا عاملا فى أيديهم على حين يكون سلاحا مفلولا فى يده ، إذا صحّ أن يكون من أسلحة المعركة ؟
ولهذا ردّ اللّه عليهم بقوله : « أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ ؟ ».. فما جوابهم على هذا ؟ إنهم لن يخلّدوا فى هذه الدنيا ، فما هذه الدنيا دار خلود لحىّ ..« إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ » (30 : الزّمر) .. إن المعركة بين حق وباطل ، فما سلاحهم الذي يحاربون به فى هذا الميدان ؟ إنه الباطل ، وإنه لمهزوم مخذول : « إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً » قوله تعالى : « كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ » هو جواب على هذا السؤال الذي جاء فى الآية السابقة : « أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ » ؟ وهو جواب ينطق به لسان الحال ويشهد له الواقع.
وفى قوله تعالى : « ذائِقَةُ الْمَوْتِ » إشارة إلى أن للموت طعما ، تجده النفوس حين تفارق الأجساد ..
وهذا الطعم يختلف بين نفس ونفس .. فالنفس المؤمنة تستعذب ورده ،وتستسيغ طعمه ، لما ترى فيه من خلاص لها من هذا القيد ، الذي أمسك بها عن الانطلاق إلى عالمها العلوي ، حيث تروى ظمأها ، وتبرّد نار أشواقها ، وتنعم فى جنات النعيم التي وعد اللّه المتقين ..
أما النفس الضالة الآثمة ، فإنما يحضرها عند الموت ، حصاد ما عملت من آثام ، وما ارتكبت من منكرات ، وتشهد ما يلقاها من غضب اللّه وعذابه ، فتكره الموت ، وتجد فيه ريح جهنم التي تنتظرها .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ » (93 : الأنعام) وقوله سبحانه : « فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ » (55 : التوبة).
وفى قوله تعالى : « وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ » إشارة إلى ما يقع للناس فى دنياهم مما يرونه شرا أو خيرا .. فذلك كله ابتلاء لهم ، واختبار لما يكون منهم مع الشرّ من صبر أو جزع ، ومع الخير من شكر أو كفر ..فما تستقبله النفوس مما يكره ، هو ابتلاء لها على الرضا بقضاء اللّه ، والتسليم له .. وما تستقبله مما يحبّ ، هو امتحان لها كذلك ، على الشكر والحمد لما آتاها اللّه من فضله وإحسانه ..
فالنفوس المؤمنة ، لا تجزع من المكروه ، ولا تكفر أو تبطر بالمحبوب ، لأن كلّا من عند اللّه ، وما كان من عند اللّه فهو خير كله ، محبوب جميعه .. هكذا تجده النفوس المؤمنة باللّه ، العارفة لجلاله ، وعظمته ، وحكمته ..
أما النفوس الضالة عن اللّه ، فإنها إن أصابها شىء من الضرّ ، جزعت ، وزادت كفرا وضلالا ، وإن مسّها الخير ، نفرت نفار الحيوان الشرس ، واتخذت من نعمة اللّه سلاحا تحارب به اللّه ، وتضرب فى وجوه عباد اللّه ..وفى هذا يقول اللّه تعالى : « إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ » (19 ـ 27 : المعارج)."
" وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد. فكل حادث فهو فان. وكل ما له بدء فله نهاية. وإذا كان الرسول –  – يموت فهل هم يخلدون؟ وإذا كانوا لا يخلدون فما لهم لا يعلمون عمل أهل الموتى؟
وما لهم لا يتبصرون ولا يتدبرون؟
«كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ». هذا هو الناموس الذي يحكم الحياة. وهذه هي السنة التي ليس لها استثناء.
فما أجدر الأحياء أن يحسبوا حساب هذا المذاق! إنه الموت نهاية كل حي ، وعاقبة المطاف للرحلة القصيرة على الأرض. وإلى اللّه يرجع الجميع. فأما ما يصيب الإنسان في أثناء الرحلة من خير وشر فهو فتنة له وابتلاء :«وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» ..والابتلاء بالشر مفهوم أمره. ليتكشف مدى احتمال المبتلى ، ومدى صبره على الضر ، ومدى ثقته في ربه ، ورجائه في رحمته .. فأما الابتلاء بالخير فهو في حاجة إلى بيان ..
إن الابتلاء بالخير أشد وطأة ، وإن خيل للناس أنه دون الابتلاء بالشر ..
إن كثيرين يصمدون للابتلاء بالشر ولكن القلة القليلة هي التي تصمد للابتلاء بالخير.
كثيرون يصبرون على الابتلاء بالمرض والضعف. ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الابتلاء بالصحة والقدرة. ويكبحون جماح القوة الهائجة في كيانهم الجامحة في أوصالهم.
كثيرون يصبرون على الفقر والحرمان فلا تتهاوى نفوسهم ولا تذل. ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الثراء والوجدان. وما يغريان به من متاع ، وما يثير انه من شهوات وأطماع!
كثيرون يصبرون على التعذيب والإيذاء فلا يخيفهم ، ويصبرون على التهديد والوعيد فلا يرهبهم. ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الإغراء بالرغائب والمناصب والمتاع والثراء! كثيرون يصبرون على الكفاح والجراح ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الدعة والمراح. ثم لا يصابون بالحرص الذي يذل أعناق الرجال. وبالاسترخاء الذي يقعد الهمم ويذلل الأرواح!
إن الابتلاء بالشدة قد يثير الكبرياء ، ويستحث المقاومة ويجند الأعصاب ، فتكون القوى كلها معبأة لاستقبال الشدة والصمود لها. أما الرخاء فيرخي الأعصاب وينيمها ويفقدها القدرة على اليقظة والمقاومة! لذلك يجتاز الكثيرون مرحلة الشدة بنجاح ، حتى إذا جاءهم الرخاء سقطوا في الابتلاء!
وذلك شأن البشر .. إلا من عصم اللّه فكانوا ممن قال فيهم رسول الله  :عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ ، وَإِنَّ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ ، وَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ. " .. وهم قليل!
فاليقظة للنفس في الابتلاء بالخير أولى من اليقظة لها في الابتلاء بالشر. والصلة باللّه في الحالين هي وحدها الضمان .."
وقال تعالى : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) [العنكبوت/56-59]
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالى عِبَادَهُ المُؤمِنينَ بالهِجْرَةِ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ لا يَقْدِرُونَ فيهِ عَلَى إِقَامَةِ الشَّعائِرِ الدِّينِيَّةِ إِلى مَكَانٍ آخَرَ مِنْ أَرْضِ اللهِ الوَاسِعَةِ ، يَسْتَطِيعُونَ فِيهِ إِقَامَةَ شَعائِرِ دِينِهِمْ كَمَا أًَمَرَهُمْ رَبُّهُمْ
وَأَيْنَمَا كُنْتُمْ يُدْرِككُمُ المَوْتُ ، فَكُونُوا فِي طَاعَةِ اللهِ ، وَحَيْثُ أَمَرَكُمْ اللهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، فَالمَوْتُ آتٍ لا مَحَالَةَ ، وَلا مَفَرَّ مِنْهُ وَلا مَهْرَبَ ، ثُمّ تُرْجَعُونَ إِلى اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَعِنْدَهُ الحِسَابُ والجَزَاءُ .
وَالذِينَ آمَنُوا باللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَصَدَّقُوا رَسُولَهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ ، وَعَمِلُوا بِمَ أَمَرهُمُ اللهُ فَأَطَاعُوهُ فِيهِ ، وانْتَهَوا عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ ، فإِنّهُ تَعَالى يَعِدُهُمْ وَعْداً حَقّاً أَنَّهُ سَيُنْزِلُهُمْ في الجَنَّةِ قُصُوراً ، وأَمَاكِنَ مُرتَفِعَةً ( غُرَفاً ) تَجْرِي في أَرْضِها الأَنْهَارُ وَسَيبْقَونَ فِيها خَالدِين ، أَبداً ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى مَا عَمِلُوا .وَمَا حَصَلُوا عَلَيهِ مِنْ جَزاءٍ كَرِيمٍ هُوَ نِعْمَ الأَجْرُ لِمَنْ عَمِلَ صَالِحاً . وَهؤُلاءِ العََامِلُون ، الذينَ فَازُوا بِغُرفاتِ الجَنَّةِ ، هُمُ الذِينَ صَبَرُوا عَلَى أَذَى المُشْرِكِينَ ، وَعَلَى شَدَائِدِ الهِجْرَةِ ، وَعَلَى الجِهَادِ في سَبِيل اللهِ ، وَتًَوَكَّلُوا عَلَى رَبِّهِمُ في جَمِيعِ أَعْمَالِهِم .
" وفي إضافة الذين آمنوا إلى اللّه سبحانه وتعالى ، وندائهم إليه من ذاته جل وعلا ـ فى هذا احتفاء بهم ، واستضافة لهم في رحاب رحمة اللّه وفضله وإحسانه .. وذلك لأنهم مدعوون إلى الهجرة من ديارهم ، والانفصال عن أهلهم وإخوانهم ، وذلك أمر شاق على النفس ، ثقيل الوطأة على المشاعر ، التي ارتبطت بالموطن ارتباط العضو بالجسد ..
فكان من لطف اللّه سبحانه بعباده هؤلاء المؤمنين ، الذين دعاهم إلى الهجرة من ديارهم ـ أن استضافهم في رحابه ، وأنزلهم منازل رحمته وإحسانه ، بهذا الدعاء الرحيم ، الذي دعاهم به سبحانه ، إليه … « يا عبادى ».. فمن استجاب منهم لهذا النداء ، وأقبل على اللّه مهاجرا إليه بدينه ، تلقّاه اللّه سبحانه بالفضل والإحسان ، وأنزله منزلا خيرا من منزله ، وبدّله أهلا خيرا من أهله!.
وقد استجاب المسلمون لهذا النداء ، فخرجوا مهاجرين إلى اللّه ، أفرادا وجماعات ، وكانت الحبشة أول متجه اتجه إليه المسلمون المهاجرون ، فأنزلهم اللّه أكرم منزل ، هناك .. ثم كانت الهجرة إلى المدينة ، التي أصبحت مهاجر المسلمين من كل مكان ، بعد أن هاجر الرسول الكريم إليها ..
وهناك وجد المهاجرون إخوانا ، شاطروهم دورهم وأموالهم ، وآثروهم على أنفسهم بالطيب من كل شىء.
وأكثر من هذا ، فإن مجتمع المهاجرين هؤلاء الذين ضمتهم مدينة الرسول ، كانوا الوجه الذي تجلى فيه دين اللّه ، وعزت به شريعته .. ومن هؤلاء المهاجرين ، كان صحابة رسول اللّه ، وخلفاء رسول اللّه ..وأكثر من هذا أيضا ، فإن القرآن الكريم ، قد أجرى ذكرا خالدا لهؤلاء المهاجرين ، وأشار إلى منزلتهم العليا عند اللّه ، وما أعد لهم من أجر عظيم ، وثواب كريم ، لم يشاركهم في هذا أحد من المسلمين ، إلا الأنصار ، الذين نزل المهاجرون ديارهم ، ووجدوا ما وجدوا من برهم وإحسانهم …
وهكذا ، استظل المهاجرون بظل هذا النداء الكريم … « يا عبادى » فكانوا منه في نعمة سابغة ، وفضل عظيم ، فى الدنيا والآخرة جميعا.
وفي قوله تعالى : « إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ » .. توجيه لأنظار المسلمين إلى سعة ملك اللّه سبحانه وتعالى ، وإلى أن يمدوا أبصارهم إلى أبعد من هذا الأفق الضيق المحدود ، الذي يعيشون فيه ، والذي يحسب كثير منهم أن الأرض كلها محصورة في هذه الرقعة التي يتحركون عليها ، ويضطربون فيها .. وكلا فإن أرض اللّه واسعة ، أكثر مما يتصورون … فليخرجوا من محبسهم هذا ، ولينطلقوا في فجاج الأرض ، الطويلة العريضة ، وسيجدون في منطلقهم هذا ، سعة من ضيق ، وعافية من بلاء .. واللّه سبحانه وتعالى يقول : « وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً » (100 : النساء). وقوله تعالى : « فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ » … أي فاجعلوا عبادتكم لى وحدي ، لا تشركون بعبادتي أحدا …
والفاء في قوله تعالى : « فَإِيَّايَ » تفيد السببية .. حيث كشف قوله تعالى : « إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ » عن إضافة هذه الأرض إلى اللّه سبحانه ، كما كشف عن سعة هذه الأرض ، وأن أي مكان ينزل منها الإنسان فيه ، هو في ملك اللّه … وإذ كان ذلك كذلك ، وجب أن يفرد وحده سبحانه بالعبادة ، كما أفرد جل شأنه بالملك …
هذا ، والآية الكريمة دعوة سماوية إلى تحرير الإنسان ، جسدا ، وعقلا ، وقلبا ، وروحا ، من كل قيد مادى ، أو معنوى ، يعطل حركته ، أو يعوق انطلاقه ، أو يكبت مشاعره ، أو يصدم مشيئته ، أو يقهر إرادته …ففى أي موقع من مواقع الحياة ، وعلى أي حال من أحوالها ، لا يجد فيه الإنسان وجوده كاملا محررا من أي قيد ، ثم لا يعمل جاهدا على امتلاك جريته كاملة ـ يكون ظالما لنفسه ، معتديا على وجوده …
وإذا كانت دعوة الإسلام قد جاءت لتحرير الإنسانية من ضلالها ، وفرضت على المؤمنين أن يجاهدوا الضلال والضالين ، وأن يبذلوا في سبيل ذلك دماءهم وأموالهم ، فإن الجهاد الحق في أكرم منازله ، وأعلى درجاته ، هو الجهاد في تحرير المؤمن نفسه أولا ، وفي تخليصها من كل قيد يمسك بها على مربط الذل والهوان ، ويحملها على أن تطعم من مطاعم الذلة والمهانة ، وفي هذا يقول اللّه تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ؟ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ!! قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً » (97 : النساء) .. فلقد توعدهم اللّه سبحانه وتعالى بالعذاب الأليم في الآخرة ، لأنهم باستخزائهم وضعفهم ، قد باعوا دينهم ، واسترخصوا مروءتهم ، فكانوا سلعة فى يد الأقوياء ، لا يملكون معهم كلمة حق يقولونها ، ولا يجدون من أنفسهم القدرة على دعوة خير يدعون بها … وإنه هيهات أن يسلم لإنسان دين أو خلق ، إلا إذا تحرر من كل ضعف واستعلى على كل خوف ..
ومن هنا كانت دعوة الإسلام متجهة كلها إلى تحرير الإنسان ، عقلا وقلبا وروحا ، كما كانت دعوته إلى تحرير الإنسان وجودا وجسدا ..
وقد يكون الإنسان حرا طليقا في المجتمع الذي يعيش فيه ، لا يرد عليه من الجماعة وارد من ضيم أو ظلم ، ومع هذا فهو أسير شهواته ، وعبد نزواته ، وتبيع هواه … لا يملك من أمر وجوده شيئا … ومن هنا كان أول ما يجاهد الإنسان هو جهاد النفس ، والأهواء المتسلطة عليه منها ….
قوله تعالى : « كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ ». هو تهوين من شأن الدنيا في عين المؤمنين الذين يتهيّئون للهجرة .. فقد يحضر كثيرا منهم ـ وهو يأخذ عدته للهجرة ـ وارد من واردات الإشفاق على الأهل والولد ، وما يلقى من لهفة وحنين لفراقهم ، وما يجدون هم من أسى وحسرة لبعده عنهم .. إلى غير ذلك مما يقع للمرء من تصورات وخواطر فى مثل هذا الموقف ـ فجاء قوله تعالى : « كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ » مهوّنا من شأن هذه الحياة الدنيا ، فإن نهاية كل حىّ فيها هو الموت .. وإذ كان ذلك هو شأنها ، فإنّ التعلق بها وبأهلها ، وبأشيائها ، هو متاع إلى حين ، ثم ينصرم الحبل بين الإنسان وبين كل ما يمسك به من هذه الدنيا ، طال الزمن أو قصر ـ فإذا كان ما يمسك الإنسان من هذه الدنيا شىء يحول بينه وبين الطريق إلى اللّه ، وإلى ما عند اللّه من ثواب عظيم وأجر كريم ـ فإن هذا الشيء مهما غلا ، هو عرض زائل ، وظل حائل ، لا حساب له إلى جانب الباقيات الصالحات ، وما وعد اللّه سبحانه عليها ، من رضوان وجنّات فيها نعيم مقيم."
" إن خالق هذه القلوب ، الخبير بمداخلها ، العليم بخفاياها ، العارف بما يهجس فيها ، وما يستكن في حناياها ..
إن خالق هذه القلوب ليناديها هذا النداء الحبيب : يا عبادي الذين آمنوا : يناديها هكذا وهو يدعوها إلى الهجرة بدينها ، لتحس منذ اللحظة الأولى بحقيقتها. بنسبتها إلى ربها وإضافتها إلى مولاها : «يا عِبادِيَ» ..
هذه هي اللمسة الأولى. واللمسة الثانية : «إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ» أنتم عبادي. وهذه أرضي. وهي واسعة. فسيحة تسعكم. فما الذي يمسككم في مقامكم الضيق ، الذي تفتنون فيه عن دينكم ، ولا تملكون أن تعبدوا اللّه مولاكم؟ غادروا هذا الضيق يا عبادي إلى أرضي الواسعة ، ناجين بدينكم ، أحرارا في عبادتكم «فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ».
إن هاجس الأسى لمفارقة الوطن هو الهاجس الأول الذي يتحرك في النفس التي تدعى للهجرة. ومن هنا يمس قلوبهم بهاتين اللمستين : بالنداء الحبيب القريب : «يا عِبادِيَ»
وبالسعة في الأرض : «إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ» وما دامت كلها أرض اللّه ، فأحب بقعة منها إذن هي التي يجدون فيها السعة لعبادة اللّه وحده دون سواه.
ثم يمضي يتتبع هواجس القلوب وخواطرها. فإذا الخاطر الثاني هو الخوف من خطر الهجرة. خطر الموت الكامن في محاولة الخروج – وقد كان المشركون يمسكون بالمؤمنين في مكة ، ولا يسمحون لهم بالهجرة عند ما أحسوا بخطرهم بعد خروج المهاجرين الأولين – ثم خطر الطريق لو قدر لهم أن يخرجوا من مكة. ومن هنا تجيء اللمسة الثانية : «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ. ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ» ..فالموت حتم في كل مكان ، فلا داعي أن يحسبوا حسابه ، وهم لا يعلمون أسبابه. وإلى اللّه المرجع والمآب. فهم مهاجرون إليه ، في أرضه الواسعة ، وهم عائدون إليه في نهاية المطاف. وهم عباده الذين يؤويهم إليه في الدنيا والآخرة. فمن ذا يساوره الخوف ، أو يهجس في ضميره القلق ، بعد هذه اللمسات؟
ومع هذا فإنه لا يدعهم إلى هذا الإيواء وحده بل يكشف عما أعده لهم هناك. وإنهم ليفارقون وطنا فلهم في الأرض عنه سعة. ويفارقون بيوتا فلهم في الجنة منها عوض. عوض من نوعها وأعظم منها : «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، خالِدِينَ فِيها».
وهنا يهتف لهم بالعمل والصبر والتوكل على اللّه : «نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» .. وهي لمسة التثبيت والتشجيع لهذه القلوب ، في موقف القلقلة والخوف والحاجة إلى التثبيت والتشجيع. ثم يهجس في النفس خاطر القلق على الرزق ، بعد مغادرة الوطن والمال ومجال العمل والنشاط المألوف ، وأسباب الرزق المعلومة. فلا يدع هذا الخاطر دون لمسة تقر لها القلوب : «وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا ، اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ» ..لمسة توقظ قلوبهم إلى الواقع المشهود في حياتهم. فكم من دابة لا تحصل رزقها ولا تجمعه ولا تحمله ولا تهتم به ، ولا تعرف كيف توفره لنفسها ، ولا كيف تحتفظ به معها. ومع هذا فإن اللّه يرزقها ولا يدعها تموت جوعا. وكذلك يرزق الناس. ولو خيل إليهم أنهم يخلقون رزقهم وينشئونه. إنما يهبهم اللّه وسيلة الرزق وأسبابه. وهذه الهبة في ذاتها رزق من اللّه ، لا سبيل لهم إليه إلا بتوفيق اللّه. فلا مجال للقلق على الرزق عند الهجرة. فهم عباد اللّه يهاجرون إلى أرض اللّه يرزقهم اللّه حيث كانوا. كما يرزق الدابة لا تحمل رزقها ، ولكن اللّه يرزقها ولا يدعها.
ويختم هذه اللمسات الرفيقة العميقة بوصلهم باللّه ، وإشعارهم برعايته وعنايته ، فهو يسمع لهم ويعلم حالهم ، ولا يدعهم وحدهم : «وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ..
وتنتهي هذه الجولة القصيرة وقد لمست كل حنية في تلك القلوب ولبت كل خاطر هجس فيها في لحظة الخروج. وقد تركت مكان كل مخافة طمأنينة ، ومكان كل قلق ثقة ، ومكان كل تعب راحة. وقد هدهدت تلك القلوب وغمرتها بشعور القربى والرعاية والأمان في كنف اللّه الرحيم المنان."

جزاك الله خيرا على هذا العطاء الطيب ..

وشكر الله لك..

غير أني كنت أود لو بينت مصدر التفسير وذلك :
-اداء للأمانة العلمية
– توثيقا للمقال
– بيان مصداقية التفسير وعدم الشك في محتواه !!

فما كان من الظلال لسيد قطب فليكتب
وما كان من التفسير القرآني فليبيّن ..

شكرا لكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.