إسلامه
كان خباب سيافا، يصنع السيوف ويبيعها لقريش، وفي يوم إسلامه جاء إلى عمله، وكان هناك نفر ينتظرون فسألوه: (هل أتممت صنع السيوف يا خباب ؟) فقال وهو يناجي نفسه: (إن أمره لعجب) فسألوه: (أي أمر؟) فيقول: (هل رأيتموه؟ وهل سمعتم كلامه؟) وحينها صرح بما في نفسه: (أجل رأيته وسمعته، رأيت الحق يتفجر من جوانبه، والنور يتلألأ بين ثناياه) وفهم القرشيون فصاح أحدهم: (من هذا الذي تتحدث عنه يا عبد أم أنمار؟) فأجاب: (ومن سواه يا أخا العرب، من سواه في قومك يتفجر من جوانبه الحق، ويخرج النور من بين ثناياه؟) فهب آخر مذعورا قائلا: (أراك تعني محمدا) وهز خباب رأسه قائلا: (نعم إنه هو رسول الله الينا ليخرجنا من الظلمات إلى النور) كلمات أفاق بعدها خباب من غيبوبته وجسمه وعظامه تعاني رضوضا وآلاما ودمه ينزف من جسده فكانت هذه هي البداية لعذاب وآلام جديدة قادمة.
الاضطهاد والصبر
وفي استبسال عظيم حمل خباب تبعاته كرائد، فقد صبر ولم يلن بأيدي الكفار على الرغم من أنهم كانوا يذيقونه أشد ألوان العذاب، فقد حولوا الحديد الذي بمنزله إلى سلاسل وقيود يحمونها بالنار ويلفون جسده بها، ولكنه صبر واحتسب، فها هو يحدث (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة ، فقلنا : ألا تستنصر لنا ، ألا تدعو لنا ؟ فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ، ما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون ))(138)( رواه البخاري ) وفي رواية : (( وهو متوسد برده ، وقد لقينا من المشركين شدة )) وبعد أن سمع خباب ورفاقه هذه الكلمات، ازدادوا إيمانا وإصرارا على الصبر والتضحية.
أم أنمار
استنجد الكفار بأم أنمار، السيدة التي كان خباب عبدا لها قبل أن تعتقه، فأقبلت تأخذ الحديد المحمى وتضعه فوق رأسه ونافوخه، وخباب يتلوى من الألم، ولكنه يكظم أنفاسه حتى لا يرضي غرور جلاديه، ومر به الرسول والحديد المحمى فوق رأسه، فطار قلبه رحمة وأسى، ولكن ماذا يملك أن يفعل له غير أن يثبته ويدعو له: (اللهم انصر خبابا) وبعد أيام قليلة نزل بأم أنمار قصاص عاجل، إذ أنها أصيبت بسعار عصيب وغريب جعلها -كما يقولون- تعوي مثل الكلاب، وكان علاجها أن يكوى رأسها بالنار!
خدمة الدين
في الأيام الأولى بالعبادة والصلاة، بل كان يقصد بيوت المسلمين الذين يكتمون إسلامهم خوفا من المشركين، فيقرأ معهم القرآن ويعلمهم إياه، فقد نبغ خبّاب بدراسة القرآن آية آية، حتى اعتبره الكثيرون ومنهم عبد الله بن مسعود مرجعا للقرآن حفظا ودراسة، وهو الذي كان يعلم القرآن لفاطمة بنت الخطاب وزوجها سعيد بن زيد عندما فاجأهم عمر بن الخطاب متقلدا سيفه الذي خرج به ليصفي حسابه مع الإسلام ورسوله لكنه لم يكد يتلو القرآن المسطور في الصحيفة حتى صاح صيحته المباركة: (دلوني على محمد)
وسمع خباب كلمات عمر، فخرج من مخبئه وصاحيا عمر والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه ، فإني سمعته بالأمس يقولاللهم أيد الإسلام بأحب الرجلين إليك، أبي الحكم بن هشام، وعمر بن الخطاب) فسأله عمر من فوره: (وأين أجد الرسول الآن يا خباب؟) وأجاب خباب: (عند الصفا في دار الأرقم بن أبي الأرقم) فمضى عمر إلى مصيره العظيم
الدَّيْن
كان خباب رجلاً قَيْناً، وكان له على العاص بن وائل دَيْنٌ، فأتاه يتقاضاه، فقال العاص: (لن أقضيَكَ حتى تكفر بمحمد) فقال خباب: (لن أكفر به حتى تموتَ ثم تُبْعَثَ)، قال العاص: (إني لمبعوث من بعد الموت؟! فسوف أقضيكَ إذا رجعتُ إلى مالٍ وولدٍ؟!)
فنزل فيه قوله تعالى: "(أفَرَأيْتَ الذَي كَفَرَ بِآياتنا وقال لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً، أَطَّلَعَ الغَيْبَ أمِ اتَّخَذَ عند الرحمنِ عَهْداً، كلاّ سَنَكتُبُ ما يقول ونَمُدُّ له من العذاب مَدّا ،و َنَرِثُهُ ما يقولُ ويَأتينا فرداً ") سورة مريم (آية 77 : 80)
جهاده
شهد خباب بن الأرت جميع الغزوات مع الرسول وعاش عمره حفيظاً على إيمانه يقول خباب: (لقد رأيتني مع رسول الله ما أملك ديناراً ولا درهماً، وإنّ في ناحية بيتي في تابوتي لأربعين ألف وافٍ، ولقد خشيت الله أن تكون قد عُجّلتْ لنا طيّباتنا في حياتنا الدنيا).
في عهد الخلافة
عندما فاض بيت مال المسلمين بالمال أيام عمر وعثمان -ما-، كان لخباب راتب كبير بوصفه من المهاجرين السابقين إلى الإسلام، فبنى داراً بالكوفة، وكان يضع ماله في مكان من البيت يعلمه أصحابه ورواده، وكل من احتاج يذهب ويأخذ منه.
وفاته
قال له بعض عواده وهو في مرض الموت أبشر يا أبا عبد الله، فإنك ملاق إخوانك غدا) فأجابهم وهو يبكي: (أما إنه ليس بي جزع، ولكنكم ذكرتموني أقواماً، وإخواناً مضوا بأجورهم كلها لم ينالوا من الدنيا شيئا، وإنا بقينا بعدهم حتى نلنا من الدنيا ما لم نجد له موضعاً إلا التراب) وأشار إلى داره المتواضعة التي بناها، ثم أشار إلى المكان الذي فيه أمواله وقال: (والله ما شددت عليها من خيط، ولا منعتها عن سائل) ثم التفت إلى كفنه الذي كان قد أعد له، وكان يراه ترفا وإسرافا وقال ودموعه تسيل انظروا هذا كفني، لكن حمزة عم رسول الله لم يوجد له كفن يوم استشهد إلا بردة ملحاء، إذا جعلت على رأسه قلصت عن قدميه، وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه).
مات في السنة السابعة والثلاثين للهجرة. مات واحد ممن كان الرسول يكرمهم ويفرش لهم رداءه ويقول أهلاً بمن أوصاني بهم ربي) وهو أول من دُفِنَ بظهر الكوفة من الصحابة.
قال زيد بن وهب: (سِرْنا مع علي حين رجع من صفّين، حتى إذا كان عند باب الكوفة إذْ نحن بقبور سبعة عن أيماننا، فقال: (ما هذه القبور ؟) فقالوا: (يا أمير المؤمنين إنّ خباب بن الأرت توفي بعد مخرجك إلى صفين، فأوصى أن يدفن في ظاهر الكوفة، وكان الناس إنّما يدفنون موتاهم في أفنيتهم، وعلى أبواب دورهم، فلمّا رؤوا خباباً أوصى أن يدفن بالظهر، دفن الناس) فقال علي بن أبي طالبرحم الله خباباً أسلم راغباً وهاجر طائعاً، وعاش مجاهداً، وابتلي في جسمه، ولن يضيعَ الله أجرَ مَنْ أحسنَ عملاً) ثم دنا من قبورهم فقال: (السلام عليكم يا أهل الدّيار من المؤمنين والمسلمين، أنتم لنا سلفٌ فارطٌ، ونحن لكم تبعٌ عما قليل لاحِقٌ، اللهم اغفر لنا ولهم وتجاوز بعفوك عنا وعنهم، طوبى لمن ذكرَ المعاد وعمل للحساب وقنعَ بالكفاف، وأرضى الله عزَّ وجلَّ).
مشكور خيو ~
على ما اطلعتنا به
جعله الله فى موازين حسناتك