وبه أستعين
الحمد لله أن عرّف عباده بذاته فى أحسن تبيين , ووضح لهم سبيله فأخرجهم من الشك إلى اليقين , وأرسل لهم رسوله بالهدى ودين الحق المبين …
أحمده تعالى وأستعينه وأستغفره وأعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله تعالى فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له , وأ شهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له , وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم …
أما بعد …
قال تعالى: (يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولاتموتون إلا وأنتم مسلمون ﭰ ) آل عمران: ١٠٢
قال تعالى: (يأيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحده وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ﭯ ) النساء: ١
ﭧ ﭨ ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً ﮭ يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً ﯞ ) الأحزاب: ٧٠ – ٧١
ثم أما بعد …
فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى , وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم , وشر الأمور محدثاتها , وكل محدثة بدعة , وكل بدعة ضلالة , وكل ضلالة فى النار …
ثم أما بعد …
طريق العقيدة السليمة الصحيحة ومنهاجه القويم لا يزيغ عنه إلا هالك عياذاً بالله , قال النبى صلى الله عليه وسلم: ( تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك )
ولكن نرى هذه الأيام اختلاف فى العقيدة وفهمها على الوجه الصحيح الذى يحبه الله ويرضاه بين أبناء المسلمين أنفسهم – ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم – وهذا مصداقاً لقول النبى صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة , وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة , وستفترق أمتى على بضع وسبعين فرقة كلها فى النار إلا واحدة)
من هى هذه الفرقة؟ وما سمتها؟ وما اسمها؟ وصفاتها؟
هذه الفرقة قال عنهم النبى-صلى الله عليه وسلم- فى رواية أحمد وابن ماجة وأبو يعلى وصححهما الألبانى : ( الجماعة الجماعة ) …
وفى رواية قال: ( ما أنا عليه وأصحابى ) , وفى لفظ: (ما أنا عليه اليوم وأصحابى).
وعُبر عنهم أيضاً بالطائفة المنصورة , فقال عنهم النبى-صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق , لايضرهم من خذلهم حتى يأتى أمر الله وهم كذلك ) .
وعبر عنهم أيضاً العلماء بأنهم : ( أهــل الحديـــث ) …
فقد روى الخطيب البغدادى بسنده عن الإمام أحمد أنه ذكر حديث النبى-صلى الله عليه وسلم- (تفترق الأمة على نيف وسبعين فرقة كلها فى النار إلا فرقة) ؛ فقال: إن لم يكونوا أهل الحديث فما أدرى من هم .
وعُبر عنهم أيضاً بمصطلح: ( الســـلف ) …
فالسلف فى اصطلاح علماء العقيدة هم : [ الصحابة والتابعين لهم بإحسان وتابعيهم , وأئمة الهدى العدول , ممن اتفقت الأمة على إمامتهم وعظم شأنهم فى الدين , وتلقى المسلمون كلامهم خلفاً عن سلفٍ بالقبول , دون من رُمى ببدعةٍ أو لقب غير مرضٍ , كالخوارج والرافضة , وما إلى ذلك… ].
وكل هذه المصطلحات الآنفة يجمعها مصطلح …
( أهـل السنـة والجماعـة )
وإيضاحاً وبياناً لمعنى المصطلح نتبع طريقة العلماء فى شرح مصطلح من المصطلحات ؛ حيث يعرفوه من حيث مفرداته , ومن حيث كونه مركباً إضافياً …
فمن حيث مفردات المصطلح :
فالسنــة : لغةً لسنا معنيين بها هاهنا الآن .
أما اصطلاحاًً: ففى الاصطلاح لها معان كثيرة بحسب الفن الذى ترد فيه , فالسنة فى اصطلاح الفقهاء غيرها فى اصطلاح المحدثين , غيرها عند الأصوليين , وهكذا …
والذى يعنينا الآن السنة عند علماء العقيدة , ألا وهى: ( ما كان عليه النبى-صلى الله عليه وسلم- من العلم والعمل والهدى وما جاء به مطلقاً).
أما الجماعــة :
ذكر الإمام الطبرى الأقوال فى معنى الجماعة , ونقلها عنه ابن حجر فى الفتح وردَ الأقوال إلى أربعة أقوال هى:
1-السواد الأعظم من أهل الإسلام .
2-أئمة العلماء المجتهدين المتبعين لمنهج الفرقة الناجية .
3-الصحابة على وجه الخصوص .
4-المجتمعون على أمير شرعى .
وكذا قال الشاطبى , وزاد قولاً خامساً , وهو جماعة أهل الإسلام
وبمحاولة الجمع بين هذه الأقوال الأربعة , يلاحظ أن جملة من هذه المعانى تؤول إلى معنيين اثنين هما:
ا-ما عليه أهل الحق من الاتباع وترك الابتداع , وهو المذهب الحق الواجب اتباعه , والسير على منهجه .
ب-المجتمعون على أمير على مقتضى الشرع , فيجب لزوم هذه الجماعة , ويحرم الخروج عليها وعلى أميرها .
وأما من حيث كونها مركب اضافى :
فأهل السنة والجماعة هم : ( المتمسكون بكتاب الله , وسنة رسوله , وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين , فى قديم الدهر وحديثه ) …
فهولاء بإذن الله تعالى الفرقة الناجية من بين كل الفرق التى ادعت النجاة وادعت الحق , وما لهم إليه سبيل , كما قال الشاعر:
وكل يدعى وصلاً بليلى :.: وليلى لا تقر لهم بذاك
وسبب ذيوع هذه التسمية وانتشارها :
ترجع إلى أول بدعة ظهرت فى الإسلام بعد موت النبى صلى الله عليه وسلم , وهى بدعة الخروج على الأئمة , وتشقيق الصف , وثلم الجماعة , ونكث الصفقة والبيعة , حين اتخذ الخوارج منهجاً فكرياً عقلياً , خالفوا به جماهير المسلمين ؛ فكفروا بالذنوب واستحلوا الدماء والأموال , فقاتلهم علىّ-رضى الله عنه- وأجمع الصحابة على ذلك , ووقعت فى أثناء ذلك الفتنة بين علىّ ومعاوية-رضى الله عن الجميع-وأريقت فيها الدماء , وتفرقت الكلمة , ثم اجتمعت الأمة بعد ذلك على معاوية , بعد أن حقن الله دماء المسلمين بتنازل الحسن بن على-رضى الله عنهما-عن الخلافة , وسُمى ذلك العام (بعام الجماعة) .
وفى إثر بدعة الخوارج ظهرت بدعة الرافضة , الذين اشتهروا بالكذب بخلاف الخوارج الذين اشتهر معظمهم بالصدق , فكان من شأن أهل السنة مع الروافض أن سألوا عن الإسناد وعُنوا به …
روى مسلم فى صحيحه عن ابن سيرين قال: (لم يكونوا يسألون عن الإسناد , فلما وقعت الفتنة , قالوا : سموا لنا رجالكم , فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم , وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم) .
ثم ظهر قول القدرية بإنكار العلم السابق , وانتشر قول الجهمية والجبرية بأن العبد مجبور , فعقبت طائفة من أهل العلم بالرد على أهل البدع بتصنيف كتب العقيدة وأسموها ( السنـــة ) , ومن ثم اشتهرت هذه الطائفة من أهل العلم بالحرص على السنة , وتميز المقبول من المردود من الرواة والروايات , فتبلور منذ ذلك الحين هذا المصطلح , الذى أصبح لقباً على كل من انتمى إلى أهل الحق المتبعين للسنة والآثار الحريصين على جمع شمل المسلمين واتفاق كلمتهم فى آن واحد …
حتى عصر الإمام أحمد بن حنبل , فأظهر الله تعالى إمامته وفضله , وحرصه على صفاء وجه السنة أن تخدشه بدعة القول بخلق القرآن-والتى جاء بها المعتزلة- مع حرصه على وحدة الجماعة أن تنثلم بالخروج على المأمون , فأقام واجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على وجهه الصحيح , فنصر الله به الملة , وأعز به السنة , وثبت به قلب الأمة …
وخرج الإمام من هذه المحنة إماماً للعامة , وعندها دُعى الإمام أحمد إمام أهل السنة والجماعة , وكان أول من لقب بهذا اللقب رحمه الله تعالى .
أما عن مشروعية هذه التسمية :
ابتداءً فإن مسمى أهل السنة والجماعة لا يدل بأى حال من الأحوال على جماعة معينة من الناس , أو يختص بآحاد أفراد عن غيرهم , ولا يعتبر وسماً أو رسماً لفئة معينة بعينها أو جماعة …
إنما ( السنة والجماعة ) منهج اتباع وفهم مستمد من الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة , أيٌ من اتبعه نسب له وعد من أهله .
وهذا القيد الأخير مهماً جدا فى ضبط التعريف ( بفهم سلف الأمة )…
إذ إن المنهج السليم والصراط المستقيم فى اتباع كلام الله وكلام نبيه بفهم من خالط وباشر نزول هذا الكلام غضاً طرياً على النبى-صلى الله عليه وسلم-فسره إليهم , وسألوه بأنفسهم عما استوقفهم وما استُغلق عليهم فى فهمه , فمن أعمق منهم فهماً لدين الله ؟
وكفى بأن الله جل جلاله زكاهم , واثبت الهداية لمن اتبع هديهم وطريقهم , فقال جل ذكره: (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم فى شقاق فسيكفيكهم الله) …
بل وأمر النبى-صلى الله عليه وسلم- باتباع هديهم والالتزام بسننهم , فقال: (عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى , عضوا عليها بالنواجذ , وإياكم ومحدثات الأمور , فإن كل محدثة بدعة , وكل ضلالة فى النار) …
وترى ابن مسعود يُقعد قاعدة الاتباع الأصيلة , ألا وهى: ( خذوا العلم عمن مات ؛ فإن الحى لا تؤمن عليه الفتنة ) .
وعلى ذلك تقع الأصول من الكتاب والسنة الآمرة باتباع الكتاب والتزام السنة , على هذا الفرع من مشروعية هذه التسمية استدلالاً .
قال تعالى: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) , قال ابن عباس: [فأما الذين ابيضت وجوههم , فأهل السنة والجماعة , وأما الذين اسودت وجوههم , فأهل البدع والضلال] .
وقال سعيد ابن جبير فى قوله تعالى: (وعمل صالحاً ثم اهتدى) أى: لزم السنة والجماعة .
وهكذا فقد علمنا معنى الاصطلاح , وسبب التسمية وذيوعها , وكذلك مشروعيتها , وبقى لنا أن نعلم خصائص العقيدة عند هذه الفرقة المباركة
في مرة أخرى إن قدر الله لنا البقاء في الدنيا , إن أراد الإخوة أن نكمل …
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته