وأغلب أولئك طائفة من الشباب الذين نشأوا وترعرعوا على طاعة الله ، تدفق الإيمان في قلوبهم تدفق الدم في العروق ، والنبي صلى الله عليه وسلم معهم بقلبه وقالبه ، يعلمهم ويوجههم حتى استطاع بفضل الله تعالى ثم بجهاده وجهادهم أن يبلغ رسالة ربه أتم بلاغ ، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده ، فصلى الله عليه وسلم وبارك عليه وجزاه عنا خير ما جزي نبياً عن أمته .
ولما كان الشباب هم عماد الأمم ، عليهم أو بسببهم تقوم الأمة أو تهبط ، حرص عليهم النبي صلى الله عليه وسلم واهتم بشأنهم وخصهم بالذكر في أحاديث كثيرة ، فأوصاهم بحفظ الفروج وصيانتها عما حرم الله تعالى فقال : " يامعشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " أخرجه الشيخان عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه . وجاء الأمر بذلك لأن في الزواج عفة للطرفين وفيه الاستغناء بالحلال عن الحرام ، وتكثير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم . ومن وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لشباب أمته حثه لهم على النشأة في طاعة الله ، ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " ومن ضمن أولئك "شاب نشأ في طاعة الله " .
ومن حرصه صلى الله عليه وسلم على شباب أمته أنه حذرهم من التفريط في ذلك العمر لأنه زمن القوة والاكتمال ، أخرج الإمام الحاكم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اغتنم خمساً قبل خمس – وذكر منها وشبابك قبل هرمك " . فعد صلى الله عليه وسلم زمن الشباب غنيمة وحث على تداركه قبل فواته ، ذلك لأن تلك المرحلة يستطيع العبد أن يحصل فيها ما يعجز عنه بعد فواتها . ومن حرص الشارع الحكيم على تلك المرحلة أنه بين أن العبد مسؤول عنها بعينها لعظم شأنها .
عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى ُيسأل عن خمس : عن عمره فيم أفناه ؟ وعن شبابه فيم أبلاه ؟ …. إلى آخر الحديث " أخرجه الترمذي .
ولما كانت مرحلة الشباب أخصب مراحل العمر ومنها يبني المرء شخصيته ويشق طريقه في معترك الحياة ، كان لزاماً على الشباب أن يتفطنوا لهذا الأمر لأنه مفترق طريق حياتهم . والمتأمل في مجتمع شباب الصحابة رضي الله تعالى عنهم يعجب عن صادق عزمهم وعلو همتهم ، فلقد كان الواحد لا يدخر وسعاً في تقديم النفع للإسلام على حسب طاقته وقدرته .
فمعاذ وابن مسعود وسالم رضي الله عنهم كانوا من القرّاء ، فكانوا مدارس لإقراء القرآن وتعليمه وزيد بن ثابت كان من كتاب الوحي وممن يجيد فهم لغة اليهود فكان ترجماناً لها , وعمرو بن سلمة على صغر سنه كان إذا حضرت الصلاة يؤم ولا يأم لضبطه وحفظه كثيراً من آي القرآن الكريم .
وتميز عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه بشدة عنايته بكتابة السنة وتحريرها .
ومالك بن الحويرث رضي الله تعالى عنه يقول : أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون . . . إلى أن قال : فقال صلى الله عليه وسلم : " ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم …." جاءوا فتعلموا ثم عملوا وعلموا فكانوا رسائل تعليم إلى أقوامهم .
وأما في مجال الجهاد والقتال فشجاعة ورباطة جأش لا مثيل لها فقد طوعوا أموراً تسبق أعمارهم بمراحل كثيرة ، ولكن :
وإذا كانت النفوس كباراً *** تعبت في مرادها الأجسام
قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن يعرضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدراً يتوارى ، فقلت ، مالك يأخي ؟ قال : إني أخاف أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستصغرني فيردني وأنا أحب الخروج لعل الله يرزقني الشهادة . قال فعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستصغره فرده ، فبكى فأجازه ، فكان سعد يقول : فكنت أعقد حمائل سيفه من صغره فقتل وهو ابن ست عشرة سنة .
ولم يقف الحد عند مشاركتهم في الغزو فحسب ، بل صار الأمر بهم أن يكونوا رؤساء في البعوث والسرايا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم . فكان عكاشة بن محسن أميراً على أربعين رجلاً في سرية إلى الغمر وزيد بن حارثة أميراً على سرية غزوة ذات السلاسل . وأما أسامة بن زيد فكان من القادة الأفذاذ فعلى صغر سنه إلا أنه تولى قيادة جيش فيه من يفوقه علماً وعمراً .
شاهد المقال : أن أولئك كانوا صغار الأعمار كبار الأقدار علم الله صدق إيمانهم وإخلاصهم فرفع شأنهم وأعلى مكانتهم . فكانوا مثلاً علياً يحتذي به المسلمون عامة وناشئتهم خاصة ، رضي الله عنهم .
لئن كان زمن الصحابة قد تميز عن غيره بنماذج الصحابة رضي الله تعالى عنهم في علو الهمة وعزة النفس فهذا عقبة بن نافع أحد قادة بني أمية يقف رحمه الله تعالى في أقصى المغرب بعد أن خاض بجواده بحر الظلمات المسمى بالمحيط الأطلسي ، يقف قائلاً : " اللهم رب محمد لولا هذا البحر لفتحت الدنيا في سبيل إعلاء كلمتك ، اللهم فاشهد " .
وهذا قتيبة الباهلي الذي توغل في آخر المشرق وأبى إلا أن يدخل بلاد الصين ، فقال له أحد أتباعه محذراً مشفقاً : لقد أوغلت في بلاد الترك ياقتيبة والحوادث بين أجنحة الدهر تقبل وتدبر ، فأجابه قتيبة بقوله الخالد : بثقتي بنصر الله توغلت وإذا انقضت المدة لم تنفع العدة .
فلما رأى ذلك المحذر عزمه وتصميمه على المضي قال له : اسلك سبيلك ياقتيبة فهذا عزم لا يفله إلا الله .
تلك النماذج التي صنعت على العلم والإيمان ، فكانوا قدوات في أقوالهم وقدوات في أفعالهم وعباداتهم .
كانت هممهم تعلو الجبال ، صدقوا الله فصدقهم ، فعلى المصحلين أن يتعاهدوا الناشئة بالمنهج العلمي المستمد من الهدي النبوي علماً وعملاً . عليهم أن يرسخوا تلك النماذج في نفوس طلابهم وناشئتهم . فذلك من أسباب عزة الأمة وصلاحها .
كما أن على الناشئة أن يببذلوا جهدهم في إصلاح أنفسهم ومحاسبتها . كما أن من الأسباب أن تتصور الأخطار المحدقة بالإسلام وأهله ثم يكون الإصلاح أو محاولة الإصلاح على حسب ضوابط العلم الشرعي وآدابه ومن الأسباب في نفع الأمة أيضاً .
أن يحذر المصلحون من اليأس والقنوط وكذا التسرع في قطف الثمار قبل أوانها .
على المرء أن يسعى إلى الخير جهده وليس عليه أن تتم المقاصد
وإن من أعظم الأسباب الرئيسة في صلاح الناشئة ونفعهم لمجتمعهم وأمتهم أن يلتفوا حول علماء الأمة الراسخين يلتفون حولهم تزوداً واستشارة ومجالسة ، فالى العلماء يردون وعنهم يصدرون .
وكيف لايكون ذلك وقد تعبدنا الله تعالى بسؤالهم عما أشكل علينا ( فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) ، فالقرب من العلماء وسؤالهم عما أشكل وتعسر من أعظم الأسباب في اجتناب الأخطاء أو تقليصها ، فالقرب من العلماء غنيمة والبعد عنهم مصيبة .
نسأل الله أن يهدي شباب المسلمين لما يحبه ويرضاه .