هوس الشاشة ..وعشق الصور .. ووعود التجميل
يجلس الناس أمام الشاشات (التليفزيون والكومبيوتر) أكثر ممال يفعلون أى شئ آخر فى حياتهم , ويستوى فى ذلك الصغار والكبار , والآن تزاحم شاشة ثالثة وهى شاشة المحمول مع وصول الجيل الثالث ذو الكاميرا المزدوجة , وهكذا تستولى الشاشة على مساحة الوعى بصورة تكاد تصبح كاملة .
وأصبح العصر الذى نعيشه يستحق وصف "عصر الصورة" , فقد أصبحت الصورة تلعب فيه دور البطولة المطلقة وصار الناس -خاصة الشباب أو من يتشبثون بشبابهم- مشغولين بصورة الوجه وشكل الجسم , ومن لا يعجبه وجهه أو جزء منه يحلم بتغييره أو يذهب فعلا لأخصائى التجميل , ومن لا يعجبه جسمه سيجد صالات الجمنيزيوم وقد انتشرت فى كل مكان تقدم الخدمة لطالبيها , ومحلات أدوات التجميل ومساحيقها تنقل الخدمة إلى البيت , ومحلات الأدوات الرياضية تفعل نفس الشئ .
وقد يقول قائل وما العيب فى ذلك ؟ .. أليس الجمال قيمة ؟
وأليس التناسق شئ مريح للعين والعقل والقلب معا ؟ .. وما دامت الحياة العصرية لديها الإمكانات للإرتقاء بالجمال فلماذا لا نستفيد من هذه الإمكانات ؟
والإجابة فى هذا الموضع هى من نوع "نعم ولكن.." , فنعم لكل ما يرتقى بجمال الإنسان وجمال البيئة وجمال الحياة , ولكن بشرط أن لا يكون هذا مسحوبا من رصيد الجمال الكلى والجمال الحقيقى , وأن لا ننشغل بالصورة إلى درجة الهوس أو إلى درجة الوسواس .
وقد ارتبطت الحضارات بارتفاع معايير الجمال سواء الحقيقية أو المتخيلة فنجد التماثيل والصور فى الحضارة المصرية القديمة وفى الحضارتين اليونانية والرومانية تفيض بالقوة والجمال والرشاقة .
وقد رأيت فتاة ترغب فى الإرتباط بشاب لا لشئ إلا لأنه يحمل حسنة فى وجهه تشبه حسنة فى وجه أحد النجوم المفضلين لديها , ورأيت شابا مهووسا بفتاة "لأن جسمها حلو مثل الراقصة س " , وهذا شاب مشغول طول الوقت بأن أنفه كبيرا أكثر من اللازم وحين نظرت إلى أنفه وجدته أجمل شئ فى وجهه واكتشفت أن أنفى أنا ضعف أنفه فى الحجم .
وقد قرر أحد الأزواج طلاق زوجته والإقتران بأخرى , وحين سألته قال إن زوجته غاية فى الإخلاص والوفاء والطيبة والحنان وأنها تفعل له كل ما يتمناه أى زوج , ولكنها للأسف "تخينه شويه" وهو يعشق النحيفات من النساء ويحلم باحتواء أجسادهن الصغيرة لكى يستشعر تفوقه الذكورى , وبما أنه يخشى الفتنة على نفسه خاصة وهو يرى تلك الموديلات من فتيات الفيديو كليب لذلك قرر طلاق زوجته والبحث عن إحدى هذه الموديلات .
هكذا يتشكل الوعى طبقا لأولويات الصورة ودواعى التصوير , وتتوارى من ال"كادر" فضائل النفس وسمو الروح , ومن هنا انتشرت ظاهرة تعددية العلاقات والخيانات بين الجنسين كوباء يهدد بزوال كل قيم الإخلاص والوفاء وكل معانى السكينة والمودة والرحمة , وهذه الظاهرة لها أسباب كثير ة من بينها التركيز الأكبر على الصورة وعلى الشكل , لأن الجمال الشكلى يتعدد ويتلون , أما الإرتباطات الأعمق فتقل تعدديتها كلما زاد عمقها .
ويجب الإنتباه فى هذا السياق إلى بعض الحالات المرضية التى تنشغل بالشكل انشغالا مرضيا , ونذكر منها اضطراب تشوه شكل الجسم Body Dysmorphic disorder وفيه ينشغل المريض بفكرة أن جزءا من وجهه أو جسمه مشوه أو مختلف أو أكبر من اللازم أو أصغر مما يجب , ويقف المريض (أو المريضة) أمام المرآة ساعات طويلة يتأمل هذا الجزء , ثم يبدأ رحلة التردد على أخصائيي التجميل باحثا عن الحل , فيقولون له (فى حالة صدق النوايا وأمانة المهنة) إن حالتك لا تحتاج إلى أى عمليات تجميل , ولكن المريض يصر إصرارا شديدا على ذلك ويظل يمر على جميع أطباء التجميل على أمل أن يوافقه أحدهم على أن أنفه كبيرا أو أن فى وجهه نمش .
والمريض هنا لا تفيد معه المناقشات المنطقية التى تهدف لإقناعه باعتدال صورة وجهه أو أعضاء جسده , فالمشكلة هنا ليست فى صورته الخارجية وإنما فى صورته الداخلية , فلكل منا ثلاث صور :
الأولى هى صورتنا التى نراها فى المرآة , والثانية هى صورتنا التى يراها الناس ويتفاعلون معنا على أساسها , والثالثة هى صورتنا الداخلية (الصورة الذهنية) .
وقد تحدثت عالمة النفس الشهيرة "كارين هورنى" عن ثلاث صور للذات هى :
– الصورة الإجتماعية (التى نظهر بها للناس)
– الصورة المثالية (التى نتمنى أن نكون عليها)
– الصورة الحقيقية (التى هى حقيقتنا فعلا) .
وكلما كانت الصور الثلاثة للذات قريبة من بعضها كلما توقعنا استقرارا وتناغما نفسيا , أما إذا تباعدت المسافات فإننا نتوقع شروخا فى النفس تؤدى إلى تداعيات نفسية أو اجتماعية قد يكون بعضها خطيرا ومهددا للتوازن النفسى .
والشخص أو المريض قد يطلب عملية تجميل بناءا على أى صورة من هذه الصور , وأصعبها هو الصورة الداخلية (الذهنية) لأنها الأكثر إلحاحا والأقل منطقية من حيث الإحتياج لعمليات التجميل .
ولست أنسى شابا وسيما فى الثلاثينات جاءنى يشكو من نفور الناس منه نظرا لقبح وجهه ,على الرغم من أن الشئ الواضح فيه هو وسامته وتناسق ملامحه وجمال وجهه .
وهناك فئة أخرى من المرضى لديهم ما نسميه بالضلالات , وهى أفكار خاطئة يعتقدها المريض اعتقادا جازما ولا تتغير بالمناقشة أو الإقناع , وهنا قد يعتقد المريض أن شفتيه غليظتين لأنه ورثهما من علاقة غير شرعية لأمه بشخص إفريقى أو أن وجهه وجه قرد أو أن عضوا فى جسده غريب عليه ويريد أن يتخلص منه أو يستبدله بعضو أفضل , وهذا يحدث فى حالات الفصام أو حالات الإضطراب الهذائى , وهى اضطرابات نفسية شديدة تحتاج لعلاج متخصص على المستويين الدوائى والنفسى .
وبالطبع نحن حين نتعامل مع هؤلاء المرضى فى العيادات النفسية فإننا نعمد مباشرة إلى الصورة الداخلية ونرى كيف تكونت ومن الذى غذاها بمعلومات جعلها تبدو هكذا , أى أننا بلغة الكومبيوتر نحاول أن نرى الفيروس الذى غير البرمجة وقلب الحقائق , وقد يكون هذا الفيروس والدة شديدة الإنشغال على شكل ابنها وشديدة التدقيق فى ملامحه والقلق على أى شئ يشوب هذه الملامح , أو يكون الفيروس لوما وتقريعا وانتقادا تعرض له الشخص ممن قاموا على تربيته فى مراحل مبكرة من عمره , أو يكون محتوى نفسيا مرفوضا أخلاقيا واجتماعيا فيظهر على السطح فى صورة شكل مرفوض اجتماعيا , أى أن التشوه هنا تشوها داخليا وليس خارجيا ولكن الشخص لا يتحمل وعيه الإعتراف بالتشوه الداخلى الذى يصيبه فى مقتل فيستبدله -بلا وعى – بتشوه خارجى "مقدورعليه" .
ومن أكثر الشخصيات طلبا لعمليات التجميل الشخصية الهستيرية والشخصية النرجسية , فالأولى تعلى كثيرا من قيمة الشكل الخارجى وتريد من خلاله أن تجذب الإنتباه وتصبح محل الإهتمام ومصدر الإبهار لمن حولها , وهى شخصية سطحية استعراضية درامية , خادعة ومخدوعة , وباردة عاطفيا وجنسيا وكل ثروتها تكمن فى الإبهار الخارجى وتحقيق أعلى قدر من الجاذبية , والثانية (أى النرجسية) يتركز اهتمامها بشكل كبير حول ذاتها وترى أن هذه الذات منفردة ومتفردة ولاى شئ يعلو عليها لذلك تولى هذه الذات المتضخمة كل الرعاية حتى تجعلها فى الصورة الأفضل دائما فلا يكون هناك أجمل منها فالدافع هنا هو الإحساس بالأهمية الخاصة وبالتفرد والتميز , ولهذا تجد الشخص النرجسى شديد الإهتمام بتفاصيل صحته وشياكته ومظهره لأنه شديد الإهتمام والإنبهار بذاته المتضخمة , وهو يفعل كل ما يجعله جديرا بالنجومية والتألق.
ومادام هناك أناس مهووسين بالصورة وبالشكل فتلقائيا تتطور الخدمة وتتشكل لتحقق احتياجاتهم وبل وتشعل هذه الإحتياجات أكثر بما تقدمه من وعود وما تحققه من إنجازات , ولهذا وجدنا مراكز التجميل المرخصة وغير المرخصة , وصالات الجمنيزيوم فى كل مكان تعد بالوجه الجميل والملامح العذبة الخالية من أى عيوب , وكانت النتيجة فتيات رشيقات أنيقات وشباب يفخر بتكوين جسمه العضلى من خلال مشيته منفوخ العضلات وملابسه الضيقة التى تبرز ذلك لمن لم ينتبه .
وهكذا استحوذت الصورة على ال"الكادر" بالكامل , وكلما أراد أحد أن ينبه الناس بأن الله لا ينظر إلى صورهم ولا إلى أجسادهم وإنما ينظر إلى قلوبهم لم يجد آذانا صاغية , فليس هناك صوت وإنما صورة وفقط .
والخطورة فى الموقف كله تكمن فى اختزال معايير الجمال بحيث تتركز فى شكل الوجه وفى شكل الجسم وتتآكل بقية مساحات الجمال الإنسانى لحساب الصورة , وعندئذ ستتحول الحياة إلى استوديو كبير ويصبح طبيب التجميل هو المؤلف والمخرج لقصة الحياة , ولا عزاء للقلوب والأرواح .
دكتور/ محمد المهدى
جميل جدا كل حرف نحت على صفحتك …
كلام سليم …
عن عشق الشاشه …
ونقطه هامه يجب نقاشها …
اسمح لي ان ابدي اعجابي بقلمك …
فكم هو زاخر بالعطاء …
لله درك ما اروع طرحك …
هنيئا لنا سحرك هذا …
دمت استاذي متألقا في سماء الإبداع …
تقبل تواجدي …
مع حبي …
الولد اللطيف …
مشكووور استاذنا
أخي الولد اللطيف سرني كثيرا مرورك اللطيف وكلماتك الأكثرمن رائعة .
دمت ودامت ردودك المتألقة.
تحياتي وتقديري لك.
لا شكر على واجب أختي غصن الأراك.
يعطيك العافية.
تحياتي وتقديري لك.