التوكل على الله
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
التوكّل هو الثقة بما عند الله واليأس مما في أيدي الناس، أو هو تفويض الأمر إلى الله عز وجل والالتجاء إليه والاعتماد عليه في الأمور كلّها. وقد كان فهم الرعيل الأول والسلف الصالح من الصحابة والتابعين للتوكل حقّ الفهم، ولذلك قاموا بعظائم الأمور وأنجزوا أعظم الإنجازات وحقّقوا ما يشبه المعجزات. وهذا بخلاف ما عليه حال المسلمين اليوم ولا سيما بعد أن ضعف إيمانهم وطغى على نفوسهم وعقولهم طغيان المادة وأصبحوا يقيسون الأمور بمقياس قدرتهم البشرية المحدودة، فبعدوا عن فهم حقيقة التوكّل وصارت عبارة: توكلت على الله، عبارة جوفاء فارغة من المعنى الصحيح وروح الإيمان. إننا نرى كثيرا من الناس، إذا ذكر التوكّل، ينصبّ تفكيرهم مباشرة على الأخذ بالأسباب والمسببات، لذلك يطلقون التوكّل ويلحقون به مباشرة حديث: "اعقلها وتوكل". فصار الحديث يستعمل لإضعاف معنى التوكّل وليس لتقويته ودفع ما تتوهمه النفوس والعقول من ترك الأخذ بالأسباب والمسببات أي أنّ الناس يستعملون الحديث في غير موضعه وعلى خلاف مقصده.
إن التوكل ثابت بنصوص قرآنية قطعية الدلالة منها: قوله سبحانه وتعالى: {إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، وقوله سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، وقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، وقوله سبحانه وتعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، وقوله سبحانه وتعالى: { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}.
كما وردت أحاديث نبوية كثيرة صريحة في الدلالة على التوكل، منها: عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب، هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون" (رواه البخاري)، وعن عمر بن الخطاب أنه سمع نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا" (رواه أحمد)، وعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خرج الرجل من بيته فقال بسم الله وتوكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله. قال يقال حينئذ هديت وكفيت ووقيت فتتنحى له الشياطي. فيقول له شيطان آخر كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟" (رواه أبو داود)، وعن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اكتوى أو استرقى، فقد برئ من التوكل" (رواه الترمذي).
فطلب التوكّل على الله في هذه الأدلة كلها، لم يأت مقرونا بشرط أو قيد، بل جاء مطلقا في الطلب، فيكون من الواجب على كل مسلم أن يتوكل على الله بشكل مطلق في كل أمر من الأمور وفي كل عمل من الأعمال. أما حديث "اعقلها وتوكل" فليس ناسخا لما قبله.
عن أنس بن مالك قال: قال رجل: "يا رسول الله أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال: اعقلها وتوكل" (رواه الترمذي). فالنبي صلى الله عليه وسلم حين رأى سوء فهم الأعرابي للمسألة، علّمه أنّ التوكل لا يعني ترك الأخذ بالأسباب والمسببات؛ فهو مطالب بالتوكل وبالأخذ بالأسباب والمسببات معا.
إن عظائم الأمور والمنجزات الكبيرة لا يمكن تحقيقها من قبل الذين حدوا قدرتهم بحدود الطاقة البشرية والقوى الإنسانية؛ لأنها إذا نظر إليها الإنسان قصرت همته وضاق أفقه عن الإبداع بحكم ارتباطها بالمحدود. ولكن إذا آمن الإنسان حق الإيمان بأن وراءه قوة غير محدودة تساعده على تحقيق مطالبه وأهدافه فإنه بلا ريب يندفع إلى الأمام في عزم لتحقيق المنجزات الرائعة والأعمال العظيمة. وعليه فإن التوكّل على الله، إذا فهم حق الفهم، كان دافعا للنهضة والرقي والسيادة، ولذلك فهو من أعظم مقوّمات الأمة الإسلامية ومن أهمّ الأفكار التي يجب على المسلمين فهمها والوعي عليها والتقيّد بها.
قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}.
ونعم بالله
والف شكر