تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الحب أقوى من الموت" ماركيز"

الحب أقوى من الموت" ماركيز" 2024.

  • بواسطة
الموت أقوى من الحبّ

قصة قصيرة لغابرييل غارسيا ماركيز

عندما وجد السيناتور أونيسمو سانشيز المرأة التي انتظرها طوال عمره، كان لا يزال أمامه ستة أشهر وأحد عشر يوماً قبل أن توافيه المنية. وكان قد التقاها في روزال دل فيري، وهي قرية متخيّلة، كانت تستخدم كرصيف ميناء سري لسفن المهربين في الليل، أما في وضح النهار، فكانت أشبه بمنفذ لا فائدة منه يفضي إلى الصحراء، وتواجه بحراً قاحلاً لا اتجاه له، وكانت قرية نائية وبعيدة عن أي شيء، إلى درجة أن أحداً لم يكن يتوقع أن يكون بوسع أي انسان أن يغيّر مصير أي فرد من سكانها. حتى أن اسمها كان يثير الضحك نوعا ما، وذلك لأن الوردة الوحيدة الموجودة في تلك القرية كان يضعها السيناتور أونيسمو سانشيز في سترته عصر ذلك اليوم الذي التقى فيه لورا فارينا.

وكانت كذلك محطة إجبارية في الحملة الانتخابية التي كان يقوم بها السيناتور كلّ أربع سنوات. فقد كانت عربات الكرنفال قد وصلت في الصباح الباكر، ثم تبعتها الشاحنات التي تقل الهنود الذين كانوا يُستأجرون ويُنقلون إلى المدن الصغيرة لزيادة عدد الحشود في الاحتفالات العامة وتضخيمها. وقبل الساعة الحادية عشرة بقليل، وصلت السيارة التابعة للوزارة التي يشبه لونها لون مشروب الفراولة الغازي، بالإضافة إلى السيارات التي تقل الموسيقيين، والألعاب النارية، وسيارات الجيب التي تقل أفراد الحاشية. أما السيناتور أونيسمو سانشيز، فكان يجلس مسترخياً في سيارته المكيّفة، لكنه ما أن فتح باب السيارة، حتى هبّت عليه نفحة قوية من اللهب، وعلى الفور تبلل قميصه المصنوع من الحرير الصافي، وأصبح وكأنه قد غمس في حساء فاتح اللون، واعتراه شعور بأنه كبر عدة سنوات، وأحس بالوحدة على نحو لم يشعر به من قبل. في الحياة الحقيقية، كان قد بلغ الثانية والأربعين من العمر، وكان قد تخرّج من جامعة غوتينجين بدرجة شرف كمهندس في استخراج المعادن. كان قارئاً نهماً للأعمال الكلاسيكية اللاتينية المترجمة ترجمة ركيكة. وكان السيناتور زوج امرأة ألمانية متألقة أنجبت له خمسة أطفال، وكانوا جميعهم يعيشون بسعادة في بيتهم، وكان هو أكثرهم سعادة إلى أن أخبروه، منذ ثلاثة أشهر، بأنه سيموت ميتة أبدية قبل أن يحل عيد الميلاد القادم.يتبع

وفيما كانت التحضيرات للاجتماع الحاشد على وشك أن تُستكمل، تمكّن السيناتور من الاختلاء بنفسه لمدة ساعة في البيت الذي كانوا قد أعدّوه له ليرتاح فيه. وقبل أن يتمدد على الفراش، وضع الوردة التي حافظ عليها طوال رحلته عبر الصحراء في كأس مليء بمياه الشرب، وابتلع الحبوب التي أخذها معه ليتحاشى تناول قطع لحم العنز المقلّي التي كانت تنتظره أثناء النهار، وتناول عدّة حبوب مسكّنة قبل وقتها المحدد خشية أن يعتريه الألم. ثم وضع المروحة الكهربائية قرب الأرجوحة واستلقى عارياً لمدة خمس عشرة دقيقة في ظلّ الوردة، وبذل جهداً كبيراً كي يبعد فكرة الموت عنه كي يغفو قليلاً. وفيما عدا الأطباء، لم يكن أحد يعرف أن أمامه أياماً معدودات سيعيشها، لأنه قرّر أن يبقي سرّه طي الكتمان، وأن لا يغيّر شيئاً في حياته، لا بدافع من الكبرياء، بل بسبب الخجل والخزي.

أحسّ أنه يمتلك زمام أموره عندما خرج للقاء الجمهور للمرة الثانية في الساعة الثالثة من بعد ظهر ذلك اليوم، مرتاحاً ونظيفاً، وهو يرتدي بنطالاً من الكتّان الخشن، وقميصاً مزّهراً، وكانت الحبوب المضادة للألم قد ساعدته في إضفاء شيء من السكينة على روحه. غير أن التآكل الذي كان الموت يحدثه فيه أكثر خبثاً مما كان يظن، لأنه ما أن صعد إلى المنصة، حتى اعتراه شعور غريب بالازدراء للذين كانوا يسعون جاهدين لأن يحظوا بشرف مصافحته، ولم يشعر بالأسف، كما في السابق، على جموع الهنود الذين قلما كان بوسعهم تحمّل جمرات نترات البوتاسيوم الملتهبة تحت أقدامهم الحافية في الساحة الصغيرة المجدبة. وبحركة من يده أوقف التصفيق، بغضب تقريباً، وبدأ يتكلم دون أن تبدو على وجهه أية تعابير محددة. وكانت عيناه مثبتتين على البحر الذي كان يئن تحت وطأة لهيب الحرارة. وكان صوته العميق الموزون يشبه المياه الراكدة، لكنه كان يعرف أنه لم يكن يقول الصدق في الخطاب الذي كان قد حفظه عن ظهر قلب، والذي كان قد ألقاه أمام الجموع مرات كثيرة، بل كان يناقض أقوال ماركوس أوريليوس صاحب النزعة الجبرية في كتاب تأملاته الرابع.
يتبع

"إننا هنا لكي نلحق الهزيمة بالطبيعة"، بدأ خطابه بخلاف كلّ قناعاته. " لن نصبح لقطاء في بلدنا بعد الآن، أيتام الله في عالم العطش والمناخ الرديء، منفيين في أرض آبائنا وأجدادنا. بل سنكون أناساً مختلفين، أيها السيدات والسادة، سنكون أناساً عظماء وسعداء".

كان ثمة نمط معين في هذا السيرك الذي يقوم به. ففيما كان يلقي كلمته، كان مساعدوه يلقون بمجموعات من الطيور الورقية في الهواء، فتدّب الحياة في هذه المخلوقات الاصطناعية، وتحلّق حول المنصة المنتصبة من ألواح خشبية، وتطير باتجاه البحر. وفي الوقت نفسه، كان رجال آخرون يفرغون بعض جذوع الأشجار من الشاحنات، ويغرسونها في تربة نترات البوتاسيوم وراء الجموع الحاشدة. وكانوا قد أقاموا واجهة كرتونية من بيوت خيالية من الآجر الأحمر ذات نوافذ زجاجية، وأخفوا وراءها الأكواخ الحقيقية البائسة.

أطال السيناتور خطابه مستشهداً باقتباسين اثنين باللغة اللاتينية ليطيل أمد المهزلة. ووعد الحشد بآلات تصنع المطر، وبأجهزة نقّالة لتربية حيوانات المائدة، وبزيوت السعادة التي تجعل الخضراوات تنمو في تربة نترات البوتاسيوم، وبشتلات من أزهار الثالوث المزروعة في أصص. وعندما رأى أنه استطاع أن يخلق عالمه الخيالي، أشار إليه بيده، وصاح بأعلى صوته: "ذاك الدرب سيكون دربنا، أيها السيدات والسادة. انظروا! ذاك الدرب سيكون لنا".
يتبع

التفت الحشد. كانت سفينة مصنوعة من الورق الملّون تعبر وراء البيوت، وكانت أطول من أعلى بيت في المدينة الاصطناعية. وعندها لاحظ السيناتور، أنها بعد أن شُيدت وأُنزلت وحُملت من مكان إلى مكان آخر، التهم الطقس الشنيع البلدة الكرتونية المتداخلة، وكادت تصبح سيئة كما هو حال قرية روزال دل فيري.

وللمرة الأولى منذ اثتني عشرة سنة، لم يتوجه نلسن فارينا ليرحب بالسيناتور. بل كان يستمع إلى خطاب السيناتور وهو مستلق على أرجوحته في ما تبقى من قيلولته، تحت ظلال عريشة البيت ذي الألواح غير المستوية، الذي بناه بيديّ الصيدلي اللتين جرّ فيهما زوجته الأولى والتي قطعّها إلى أشلاء. ثم هرب من جزيرة الشيطان، وظهر في روزال ديل فيري على متن سفينة محمّلة بببغاوات بريئة من نوع المقو، برفقة امرأة سوداء جميلة كافرة، كان قد التقى بها في باراماريبو وأنجب منها فتاة. لكن المرأة ماتت لأسباب طبيعية بعد فترة قصيرة، ولم تلق مصير المرأة الأخرى، التي ساهمت أعضاؤها المقطعّة إرباً في تسميد قطعة الأرض المزروعة بالقنبيط، بل ووريت التراب بكامل جسدها، محتفظة باسمها الهولندي، في المقبرة المحلية. وقد ورثت الابنة لون أمها وقوامها الجميل، فضلاً عن عينيّ أبيها الصفراوين المندهشتين، وكان يحق له أن يعتقد أنه كان يربّي أجمل امرأة في العالم.

ومنذ أن اجتمع بالسيناتور أونيسمو سانشيز خلال حملته الانتخابية الأولى، طلب منه نلسن فارينا أن يساعده في الحصول على بطاقة هوية مزورة تجعله في منأى عن قبضة القانون. إلا أن السيناتور رفض بطريقة ودّية، ولكن حازمة. غير أن نلسن فارينا لم يستسلم، بل ظل ولسنوات عديدة، وكلما أتيحت له الفرصة، يكرّر طلبه بأساليب مختلفة. أما هذه المرة، فقد بقي في أرجوحته، وقد كتب عليه أن يتعفّن حياً في عرين القراصنة اللاهب ذاك. وعندما سمع التصفيق الأخير، رفع رأسه، وأخذ يتطلع من فوق ألواح السياج، ورأى الجانب الخلفي من المهزلة: الدعائم التي أُحضرت للمباني، جذوع الأشجار، والمخادعين المتوارين الذين يدفعون السفينة فوق المحيط. ثم بصق بإحساس مفعم بالحقد والازدراء.

يتبع

وبعد أن ألقى كلمته، أخذ السيناتور كدأبه يجوب شوارع القرية وسط أنغام الموسيقى والأسهم النارية، وقد تحلّق حوله سكان القرية، الذين راحوا يبثون له شكاويهم ومشاكلهم. وكان السيناتور يصغي إليهم باهتمام وود شديدين ولم يكن يتورع عن مواساة كلّ فرد منهم، دون أن يقدم لأي منهم أي خدمات هامة. وتمكنت امرأة تقف على سطح أحد المنازل مع أطفالها الستة الصغار من أن تُسمعه صوتها وسط الضجيج وأصوات الأسهم النارية.

"إني لا أطلب الكثير، أيها السيناتور"، قالت"، "حمار واحد فقط لأتمكن من سحب الماء من بئر الرجل المشنوق".

لاحظ السيناتور الأطفال النحاف الستة وسألها: "ماذا حدث لزوجك؟"

"ذهب يبحث عن الثروة في جزيرة أروبا"، أجابت المرأة بروح دمثة، "وعثر على امرأة أجنبية، من النوع الذي يضع الماس في أسنانهن".

أحدث الجواب عاصفة من الضحك.

"حسناً، قرّر السيناتور، " ستحصلين على حمارك".

وما هي إلا لحظات، حتى أحضر أحد مساعديه حماراً مزوداً بسرج جيد إلى بيت المرأة، وقد دُوِّن على كفله شعار من شعارات الحملة الانتخابية بطلاء لا يمكن إزالته لكي لا ينسى أحد أبداً أنه هدية من السيناتور.

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.