الْأَحَادِيثُ الطِّوَالُ حَدِيثُ الثَّلَاثَةِ الْمُبْتَلِينَ 2024.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الْأَحَادِيثُ الطِّوَالُ (5)
حَدِيثُ الثَّلَاثَةِ الْمُبْتَلِينَ
إبراهيم بن محمد الحقيل
2/8/1433

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ يَبْتَلِي عِبَادَهُ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ؛ لِيَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُونَ؛ [وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ] {الأنبياء:35}، نَحْمَدُهُ عَلَى وَافِرِ نِعَمِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى جَزِيلِ عَطَائِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ عَطَاؤُهُ أَوْفَرُ مِنْ مَنْعِهِ، وَعَافِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ بَلَائِهِ، وَرَحْمَتُهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وَإِذِ ابْتَلَى فَلَا يَبْتَلِي إِلَّا لِحِكْمَةٍ؛ [خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ] {الملك:2}، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ كَانَ يَحْكِي لِأَصْحَابِهِ أَخْبَارَ السَّابِقِينَ، وَيَقُصَّ عَلَيْهِمْ قَصَصَ الْمُبْتَلِينَ؛ لِيَتَّعِظُوا بِأَخْبَارِهِمْ، وَيَأْخُذُوا الْعِبْرَةَ مِنَ اخْتِيَارِهِمْ فِي بَلَائِهِمْ، وَمَنْ تَرَبَّى عَلَى سُنَّتِهِ الْعَطِرَةِ وُفِّقَ لِحُسْنِ الاخْتِيَارِ فِي الْبَلَاءِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاسْتَقِيمُوا عَلَى أَمْرِهِ، وَاجْتَنِبُوا نَهْيَهُ؛ فَإِنَّ الدُّنْيَا مَهْمَا طَابَتْ لِأَصْحَابِهَا، وَازْدَانَتْ لِطُلَّابِهَا، وَعَظُمَتْ فِي أَعْيُنِ عُبَّادِهَا؛ فَهِيَ إِلَى زَوَالٍ، وَهُمْ عَنْهَا بِالْمَوْتِ رَاحِلُونَ، وَلَا يَبْقَى لِلرَّاحِلِينَ لَهُمْ مِنْهَا إِلَّا أَعْمَالُهُمْ فِيهَا؛ [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ] {الزَّلزلة:7-8}.

أَيُّهَا النَّاسُ: مَا تَرَكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَيْرًا إِلَّا دَلَّنَا عَلَيْهِ، وَلَا شَرًّا إِلَّا حَذَّرَنَا مِنْهُ، نَصَحَ لَنَا فَكَرَّرَ النُّصْحَ، وَأَمَرَنَا بِالْتِزَامِ الشَّرْعِ، وَحَذَّرَنَا مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، حَدَّثَ بِذَلِكَ فِي مَجَالِسِهِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، وَأَعْلَنَهُ فِي الْجُمُوعِ وَالْحُشُودِ، وَأَعْلَمَ بِهِ مَنْ جَاءَهُ مِنَ الْوُفُودِ، وَخَطَبَ بِهِ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَكَرَّرَهُ فِي الْمَحَافِلِ، وَحَكَاهُ فِي إِقَامَتِهِ وَفِي أَسْفَارِهِ، وَمَا تَرَكَ فُرْصَةً لِلْبَلَاغِ وَالْبَيَانِ إِلَّا اهْتَبَلَهَا، وَلَا سَاعَةً لِلْبِشَارَةِ وَالنَّذَارَةِ إِلَّا اسْتَثْمَرَهَا، حَتَّى كَانَتْ الدَّعْوَةُ لِدِينِ اللهِ تَعَالَى هِيَ حَيَاتَهُ كُلَّهَا، وَقَضَى فِيهَا بَعْدَ بَعْثَتِهِ سَنَوَاتِهِ أَجْمَعُهَا، وَكَانَ مِنْ أَسَالِيبِهِ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ قَصُّ الْقَصَصِ، وَالْإِخْبَارُ عَمَّنْ سَلَفَ، مِمَّنْ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ وَعِظَةٌ، وَكَثُرَتْ أَحَادِيثُهُ فِي ذَلِكَ، حَتَّى أُفْرِدَتْ بِمُصَنَّفَاتٍ تُسَمَّى: الْقَصَصُ النَّبَوِيُّ.
وَمِنْ أَعْجَبِ الْقَصَصِ الَّتِي قَصَّهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَأَخْذِ الْعِظَةِ وَالْعِبْرَةِ خَبَرُ ثَلَاثَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ابْتَلَاهُمُ اللهُ تَعَالَى بِالضَّرَّاءِ، ثُمَّ قَلَبَ ضَرَّاءَهُمْ إِلَى سَرَّاءَ؛ لِيَظْهَرَ مِنْهُمْ شَاكِرُ النِّعْمَةِ مِنْ جَاحِدِهَا، وَهِيَ قِصَّةٌ يَحْتَاجُ إِلَى الاعْتِبَارِ بِهَا كُلُّ مُسْلِمٍ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْفَكُّ فِي حَيَاتِهِ عَنِ ابْتَلَاءَاتِ السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَهُوَ فِي الْغَالِبِ يَتَقَلَّبُ بَيْنَ الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، فَلْيَأْخُذِ الْعِبْرَةَ مِمَّنْ سَبَقُوا حَتَّى يُحْسِنَ التَّعَامِلَ مَعَ الْبَلَاءِ، وَيُوَظِّفَ الضَّرَّاءَ وَالسَّرَّاءَ فِي مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ بِالصَّبْرِ وَالدُّعَاءِ فِي الضَّرَّاءِ، وَالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ فِي السَّرَّاءِ.

رَوَى أَبَو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ:"إِنَّ ثَلاَثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى، بَدَا لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، (وَفِي رِوَايَةٍ: أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ)؛ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا، فَأَتَى الأَبْرَصَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ، قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ، فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا، وَجِلْدًا حَسَنًا، فَقَالَ: أَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الإِبِلُ، فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ، فَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا، وَأَتَى الأَقْرَعَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: شَعَرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا، قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا، قَالَ: فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: البَقَرُ، قَالَ: فَأَعْطَاهُ بَقَرَةً حَامِلًا، وَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا، وَأَتَى الأَعْمَى فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: يَرُدُّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ، قَالَ: فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ الغَنَمُ: فَأَعْطَاهُ شَاةً وَالِدًا، فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا، فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنْ إِبِلٍ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ بَقَرٍ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ غَنَمٍ، ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ، تَقَطَّعَتْ بِيَ الحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلاَ بَلاَغَ اليَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الحَسَنَ، وَالجِلْدَ الحَسَنَ، وَالمَالَ، بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الحُقُوقَ كَثِيرَةٌ، فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ، فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ؟ فَقَالَ: لَقَدْ وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عَنْ كَابِرٍ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ، وَأَتَى الأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا، فَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ، وَأَتَى الأَعْمَى فِي صُورَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ وَتَقَطَّعَتْ بِيَ الحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلاَ بَلاَغَ اليَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِي، وَفَقِيرًا فَقَدْ أَغْنَانِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، فَوَاللَّهِ لاَ أَجْهَدُكَ اليَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ، فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ، وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ"؛ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

إِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ الْعَظِيمَةَ لَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَبْتَلِي عِبَادَهُ بِالسَّرَّاءِ وَبِالضَّرَّاءِ، وَقَدْ يَقْلِبُ صَاحِبَ السَّرَّاءِ مِنْ سَرَّائِهِ إِلَى ضَرَّاءَ، وَيَقْلِبُ صَاحِبَ الضَّرَّاءِ مِنْ ضَرَّائِهِ إِلَى سَرَّاءَ، وَقَدْ تَتَعَدَّدُ الابْتِلَاءَاتُ وَالتَّقَلُّبَاتُ عَلَى الْوَاحِدِ مِنَ النَّاسِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي عِبَادِهِ بِمَا شَاءَ؛ فَيَسْلِبُ الْمَالَ وَالْجَاهَ وَالْقُوَّةَ مِمَّنْ يَمْلِكُونَهَا مِنْ حَيْثُ لَا يَتَصَوَّرُونَ، وَقَدْ رَأَيْنَا ذَلِكَ رَأْيَ الْعَيْنِ فِي زَمَنِنَا هَذَا، فَلَا يَرْكَنُ إِلَى سَرَّاءِ الدُّنْيَا، وَلَا يَغْتَرُّ بِزُخْرُفِهَا إِلَّا مَغْرُورٌ.

وَفِي الْقِصَّةِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي قَلْبِ أَحْوَالِ عِبَادِهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وفْقَ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.
وَالْقِصَّةُ دَلِيلٌ عَلَى مَا فِي النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ مِنَ الْجُحُودِ وَالاسْتِكْبَارِ الَّذِي لَا يُعَالَجُ إِلَّا بِالْإِيمَانِ وَالذُّلِّ وَالْخُضُوعِ للهِ تَعَالَى، وَكَسْرِ كِبْرِيَاءِ النَّفْسِ وَعُلُوِّهَا؛ حَتَّى لَا تَكُونَ سَبَبًا فِي هَلَاكِ صَاحِبِهَا.
كَمَا أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ الْعَظِيمَةَ تَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْبَشَرِ فِي الْقَنَاعَةِ وَالطَّمَعِ، فَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ صَاحِبُ طَمَعٍ وَشَرَهٍ وَحِرْصٍ، كَمَا كَانَ حَالُ الْأَبْرَصِ الَّذِي طَلَبَ جِلْدًا حَسَنًا، وَلَوْنًا حَسَنًا، وَلَمْ يَكْتَفِ بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ الضَّرُورِيُّ، وَكَذَلِكَ الْأَقْرَعُ حِينَ طَلَبَ شَعْرًا حَسَنًا، فَلَمْ يَكْتَفِ بِطَلَبِ الشَّعْرِ فَقَطْ، وَمِنْهُمُ الْقَنُوعُ الَّذِي يُرْضِيهِ الْيَسِيرِ؛ كَالْأَعْمَى الَّذِي طَلَبَ أَنْ يُبْصِرَ فَقَطْ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ بِعَيْنَيْنِ حَسْنَاوَيْنِ، أوَ ْبَصَرٍ حَادٍّ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَتَجَلَّى ذَلِكَ أَكْثَرَ فِي طَلَبِ الْأَبْرَصِ وَالْأَقْرَعِ لِلْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَاكْتِفَاءِ الْأَعْمَى بِالْغَنَمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ أَنَفَسُ مَالًا، وَأَغْلَى ثَمَنًا، وَأَكْثَرُ نَفْعًا مِنَ الْغَنَمِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ يُعْطِينَا فَائِدَةً مُهِمَّةً: وَهِيَ أَنَّ الْقَنُوعَ يَكُونُ فِي الْغَالِبِ شَكُورًا، وَأَنَّ الطَّمَّاعَ يَكُونُ فِي الْغَالِبِ كَفُورًا، كَمَا قَدْ شَكَرَ الْأَعْمَى وَهُوَ قَنُوعٌ، وَكَفَر صَاحِبَاهُ وَكَانَا حَرِيصَيْنِ شَرِهَيْنِ.

وَالْغَالِبُ أَنَّ الطَّمَّاعَ الْجَحُودَ لَا تَنْفَعُ مَعَهُ الْمَوْعِظَةُ، كَمَا لَمْ تَنْفَعْ مَعَ الْأَبْرَصِ وَالْأَقْرَعِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَكَ الَّذِي جَاءَهُمَا ذَكَّرَهُمَا بِحَالِهِمَا قَبْلَ أَنْ يُنْعِمَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمَا بِذَهَابِ عِلَلِهِمَا، وَغِنَاهُمَا بَعْدَ الْفَقْرِ، وَكَانَ هَذَا التَّذْكِيرُ تَعْرِيضًا فِي البِدَايَةِ، وَتَصْرِيحًا فِي النِّهَايَةِ، حَتَّى تُقْطَعَ المَعْذِرَةُ.
فَأَمَّا التَّعْرِيضُ فَإِتْيَانُ المَلَكِ لِلثَّلاَثَةِ بَعْدَ شِفَاهُمْ وَغِنَاهُمْ بِنَفْسِ صُورَتِهِ الَّتِي أَتَاهُمْ فِيهَا وَهُمْ مُبْتَلُونَ، وَادِّعَاؤُهُ الانْقِطَاعَ وَالمَسْكَنَةَ، أَوْ إِتْيَانُهُ لَهُمْ فِي صُوَرِهِمْ وَهُمْ مُبْتَلُونَ؛ لِيُذَكِّرَهُمْ بِمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الابْتِلاءِ وَالفَقْرِ قَبْلَ العَافِيَةِ وَالغِنَى، وَأَمَّا التَّصْرِيحُ فَقَوْلُهُ لِلْأَبْرَصِ: أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الحَسَنَ، وَالجِلْدَ الحَسَنَ، وَالمَالَ.. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لَهُ: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ، فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ؟ وَصَرَّحَ بِنَحْوِهِ لِلْأَقْرَعِ وَالأَعْمَى.
وَفِي التَّدَرُّجِ مِنَ التَّعْرِيضِ إِلَى التَّصْرِيحِ دَرْسٌ مُهِمٌّ فِي الدَّعْوَةِ، وَهُوَ أَنَّ الدَّاعِي إِلَى اللهِ تَعَالَى يَبْدَأُ بالتَّعْرِيضِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ؛ لِئَلَّا يَحْرِجَ المَدْعُوَّ، وَذَلِكَ أَدْعَى لِلاسْتِجَابَةِ، فَإِنْ رَآهُ فَهَمَّ عَنْهُ، وَقَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلاَّ لَجَأَ إِلَى التَّصْرِيحَ.
لَقَدْ رَدَّ الأَبْرَصُ وَالأَقْرَعُ عَلَى المَلَكِ بِإِنْكَارِ نِعْمَةِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا، وَادَّعَيَا أَنَّ مَا يَنْعَمَانِ فِيهِ مِنَ المَالِ وَالغِنَى وَالشَّرَفِ قَدْ وَرِثَاهُ عَنْ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ، وَهَذَا مِنْ جُحُودِ النِّعْمَةِ، وَنِسْبَتِهَا لِغَيْرِ مُسْدِيهَا، وَكَمْ فِي النَّاسِ مَنْ يَنْسِبُ مَا أَنْعَمَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ لِبَشَرٍ مِثْلِهِ وَيَنْسَى المُنْعِمَ الحَقِيقِيَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهَذَا مِنْ كُفْرَانِ النِّعَمِ المُوْجِبِ لِلنِّقَمِ.

وَادَّعَى الأَبْرَصُ وَالأَقْرَعُ أَنَّ الحُقُوقَ عَلَيْهِمَا كَثِيرَةٌ، وَبَخِلَتْ نَفْسَاهُمَا عَنِ السَّخَاءِ بِبَعِيرٍ وَاحِدٍ وَبَقَرَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مَالٍ كَثِيرٍ جِدًّا، وَهَذِهِ الدَّعْوَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا كَانَا لاَ يُنْفِقَانِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِمَا؛ وَذَلِكَ أَنَّ المَلَكَ جَاءَهُمَا فِي أَبْأَسِ حَالٍ، وَأَحْوَجِهَا إِلَى الإِسْعَافِ وَالإِنْقَاذِ، فَذَكَرَ المَسْكَنَةَ وَالغُرْبَةَ وَالانْقِطَاعَ فِي السَّفَرِ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تُوجِبُ الزَّكَاةَ وَالصَّدَقَةَ، فَلَمَّا لَمْ يَقُومَا بِمَنْ هَذِهِ حَاجَتُهُ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلاً عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يُنْفِقَا عَلَى مَنْ حَاجَتُهُ دُونَ هَذَا، بِخِلاَفِ الأَعْمَى، فَإِنَّهُ لَمَّا تَذَكَّرَ حَالَهُ قَبْلَ العَافِيَةِ وَالغِنَى لَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ غَيْرُ شُكْرِ اللهِ تَعَالَى، وَالاعْتِرَافِ بِفَضْلِهِ، فَسَخَتْ يَدُهُ بِكُلِّ مَا يَمْلِكُ؛ وَلِذَا قَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِي، وَفَقِيرًا فَقَدْ أَغْنَانِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، فَوَاللَّهِ لاَ أَجْهَدُكَ اليَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ، وَالْمَعْنَى: لَا أَحْمَدُكَ عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَالِي، فَسَخَا بِمَالِهِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ تَذَكَّرَ حَالَهُ مِنْ قَبْلُ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِمَنْ دُعِيَ لِلْإِنْفَاقِ -وَلاَ سِيَّمَا الغَنِيَّ- أَنَّ يَتَذَكَّرَ حَالَهُ قَبْلَ جَرَيَانِ المَالِ فِي يَدَيْهِ؛ فَذَلِكَ أَدْعَى لِلسَّخَاءِ فِي الإِنْفَاقِ، وَكَسْرِ حِرْصِ النَّفْسِ وَشَرَهِهَا، وَإِزَالَةِ طَمَعِهَا وَشُحِّهَا.
وَنَجَا الأَعْمَى فِي هَذَا الابْتِلاءِ فَرَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ لِشُكْرِهِ النِّعْمَةَ، وَإِقْرَارِهِ بِفَضْلِ المُنْعِمِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْهِ لِجُحُودِهِمَا وَكُفْرِهِمَا نِعْمَةَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَقِنَا شُحَّ نُفُوسِنَا، وَاكْفِنَا شَرَّ الحِرْصِ وَالبُخْلِ؛ [وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {التغابن:16}.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ..

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، [وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ] {البقرة:281}.

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: فِي قِصَّةِ الثَّلاَثَةِ المُبْتَلِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّتِي قَصَّهَا عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحْكَامٌ وَفَوَائِدُ إِضَافَةً إِلَى العِظَةِ وَالاعْتِبَارِ؛

فَمِنْ أَحْكَامِهَا:
أَنَّ شُكْرَ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ شَرْعًا، وَهُوَ مُوجِبٌ فِي الدُّنْيَا حِفْظَ النِّعْمَةِ وَزِيَادَتَهَا، وَسَبَبٌ لِلثَّوَابِ فِي الآخِرَةِ، وَأَنَّ كُفْرَ النِّعَمِ مَعْصِيَةٌ يُوجِبُ فِي الدُّنْيَا زَوَالَهَا، مَعَ الإِثْمِ المُوجِبِ لِعُقُوبَةِ الآخِرَةِ، وَلِذَا رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنِ الأَعْمَى، وَغَضِبَ عَلَى الأَبْرَصِ وَالأَقْرَعِ وَعَاقَبَهُمَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ.
وَمِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ القِصَّةِ: أَنَّهُ لاَ مَانِعَ مِنْ تَذْكِيرِ الإِنْسَانِ بِحَالِهِ المَاضِيَةِ السَّيِّئَةِ فِي مَقَامِ الدَّعْوَةِ وَالنَّصِيحَةِ، وَأَمَّا فِي حَالِ الخُصُومَةِ وَالتَّعْيِيرِ فَيَبْقَى التَّحْرِيمُ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: [وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ] {الحجرات:11}.

وَفِيهَا مِنَ الأَحْكَامِ: جَوَازُ تَنَكُّرِ الإِنْسَانِ لِمَنْ يَعْرِفُهُ، وَإِتْيَانُه فِي هَيْئَةٍ أُخْرَى لِاخْتِبَارِهِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ، كَتَنَكُّرِ الوَالِي فِي لِبْسِهِ وَهَيْئَتِهِ لِمُرَاقَبَةِ عُمَّالِهِ، وَتَنَكُّرِ الوَزِيرِ فِي وَزَارَتِهِ، وَالمُدِيرِ فِي إِدَارَتِهِ لِاخْتِبَارِ أَدَاءِ مُوَظَّفِيهِ، كَمَا جَاءَ المَلَكُ -عَلَيْهِ السَّلامُ- لِلثَّلاثَةِ فِي صُوَرِ بَشَرٍ لِاخْتِبَارِهِمْ.
وَفِيهَا: جَوَازُ ذِكْرِ الأَفْعَالِ السَّيِّئَةِ الَّتِي وَقَعَتْ مِنَ السَّابِقِينَ لِلنُّصْحِ وَالوَعْظِ وَأَخْذِ العِبْرَةِ، وَلاَ يُعَدُّ ذَلِكَ مِنَ الغِيْبَةِ، وَالأَوْلَى عَدَمُ تَسْمِيَةِ مَنْ وَقَعَ لَهُمْ ذَلِكَ إِلاَّ لِمَصْلَحَةٍ؛ لِأَنَّ العِبْرَةَ بِمَا وَقَعَ لَهُمْ، وَلاَ فَائِدَةَ مِنْ ذِكْرِ أَسْمَائِهِمْ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يُسَمِّهِمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاكْتَفَى بِذِكْرِ مَا جَرَى لَهُمْ فَهُوَ مَوْطِنُ العِظَةِ وَالعِبْرَةِ.

وَفِي هَذِهِ القِصَّةِ تَتَجَلَّى أَهَمِّيَّةُ الصَّدَقَةِ وَمَنْزِلَتُهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّهَا سَبَبٌ لِاسْتِدَامَةِ العَافِيَةِ، وَنَمَاءِ النِّعْمَةِ، وَفِيهَا الزَّجْرُ عَنِ الشُّحِّ فَإِنَّهُ رَأْسُ الرَّذَائِلِ، وَسَبَبُ المَصَائِبِ، وَقَدْ حَمَلَ أَصْحَابَهُ عَلَى الكَذِبِ وَكُفْرِ النِّعْمَةِ، وَالصَّدَقَةُ بَابٌ لِشُكْرِ النِّعَمِ؛ [وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ] {إبراهيم:7}.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا…

جزاك الله كل خير

وجعله في موازين حسناتك

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

مرورك على موضوعى شرف لى

رزقكم الله وإيانا الجنة

شكرا على الموضوع المميز

وهذا الحديث فيه من الفوائد الكثير

جزاك الله كل خير

الأخ الطيب
شكرا لك على هذا النقل القيّم والهادف
جزاك الله خيرا

وعلى الأمة الانتباه لما في هذا الحديث من أسرار وإيحاءات ومكنونات !!