4
في هذا النص، ‘في حضرة الغياب’، يمتزج النثر بالشعر، ويقيم محمود درويش البنية الفنية لنصه انطلاقاً من السيرة الذاتية، غير المقصودة لما فيها من وقائع، غير المكتفية بوقائعها، وإنما التي تتكئ على الوقائع لتحلق في عالم من التأملات والرؤى التي لا تخص ذاته الفردية المشغولة وحدها بتفاصيل العيش اليومي، وإنما تتعالى لتصبح تعبيراً عن الذات الإنسانية في صراعها مع أسئلة الحياة والموت، والوجود والعدم. وهي المكتوبة بحسية عالية، وبلغة يتبارى فيها النثر بكل جدارة مع الشعر، ويتناوب الشعر مع النثر على تقديم الحالة الموصوفة التي تبدأ من لحظة انفصال الشاعر عن الشخص الذي كانه، حيث يموت الشخص ويبقى الشاعر (أو كما قال إلياس خوري: كان المثنى حيلة درويش الأخيرة لاكتناه العلاقة بين البداية والنهاية. الشاعر الحديث ينقسم اثنين، لا ليبكي، إنما ليكتشف سر العلاقة المعقدة بين الموت والحياة. لذا يدمجهما في نسيج رؤيوي، ويحركهما في خيطان متقاطعة)10
نحن الآن أمام جثمان الشخص، وانطلاقاً من هذه اللحظة الفاصلة تنداح وقائع دالة من سيرة محمود درويش، في لغة مكثفة محسوبة بدقة. ولا يقوم الشاعر بنثر سيرته على الطريقة المألوفة. فليس ثمة استطراد في سرد الوقائع، ولا انتساب إلى الأسرة بالطريقة المألوفة، ولا إشارة إلى العلاقة مع الأب أو الأم أو بقية أفراد الأسرة إلا على نحو محدود، هو الذي يخدم غرض الشاعر، للذهاب عميقاً في مسألة الحياة/ الموت، وفي موضوعة الوطن بتجلياته المختلفة، بدءاً من لحظة الولادة حيث ‘لم يصدق أحد من الجالسين في ظل شجرة التوت أنك ستحيا، من فرط ما شرقت بحليب أمك واختنقت. نحيلاً كنت كخاطرة عابرة’ص11 مروراً بالنزوح المؤقت إلى لبنان والتطرق لأشكال المعاناة التي تعرض لها درويش، وانتهاء بالعودة الناقصة إلى قطاع غزة بعد إبرام اتفاق أوسلو، وإقامة السلطة الوطنية الفلسطينية، وما رافق ذلك من سماح لمحمود درويش بالدخول إلى حيفا، لإجراء حوار متلفز مع إميل حبيبي، غير أن حبيبي يموت في تلك الأثناء، فيأتي درويش إلى حيفا لتأبينه، ومن ثم لزيارة أمه، ولزيارة قبر أبيه وللمرور بالقرب من المكان الذي كانت تقوم عليه قريته ‘البروة’.
ولتتبع الوقائع التي يختارها درويش من سيرته الذاتية لكي يبني عليها كتابه المدهش هذا، سنلاحظ أن بعض هذه الوقائع جرى ذكره في الكتابين السابقين، ولكن في كل مرة بإضافة بعض تفاصيل أخرى، وبأسلوب مختلف، ومن زاوية تضيف جديداً إلى الموضوع نفسه الذي كنا عرفناه من قبل، وبما يتيح للشاعر الإمعان في تأملاته العميقة حول حياة الكائن الإنساني ومصيره.
من أهم الوقائع التي جرى التطرق إليها في هذا الكتاب: النزوح إلى لبنان، التسلل عبر الحدود والعودة إلى الوطن، الحياة في ظل سلطة الآخر، الاعتقال والإقامة الجبرية وما يتفرع منهما، الخروج من حيفا، الإقامة في بيروت ومكابدات أيام الحصار، والعودة الناقصة إلى غزة ورام الله وحيفا.
في وصف النزوح إلى لبنان، يتناوب الشعر والنثر على وصف ذلك، حيث ‘لك ليل على هذا الوادي، فاهبط أسرع من حجل مذعور، الهواء ساكن لا يحرك ريشة، ولا دليل لرحيلك هذا أوضح من غراب يرافق النازحين إلى حدود الليل’. ص33
ويستمر سرد الحكاية على النحو التالي: ‘أما الآن، فلا تنظر إلى النجمة لئلا تخطفك وتضيع. وتعلق بثوب أمك… الدليل الوحيد على أن الأرض تركض حافية القدمين، ولا تبك كأخيك الصغير، المولود منذ أيام، لئلا يرشد البكاءُ الجنودَ إلى جهتنا المرمية في الهواء كيفما اتفق.’ ص34
ولعل من المناسب في هذا المقام، أن نتذكر ديوان ‘لماذا تركت الحصان وحيداً’ 11 لنرى كيف تم وصف النزوح نفسه في هذا الديوان. يقول درويش:
‘إلى أين تأخذني يا أبي؟
إلى جهة الريح يا ولدي…
… وهما يخرجان من السهل، حيث أقام جنود بونابرت تلاً لرصد
الظلال على سور عكا القديم –
يقولُ أب لابنه: لا تخفْ. لا
تخف من أزيز الرصاص! إلتصقْ
بالتراب لتنجو! سننجو ونعلو على
جبل في الشمال، ونرجع حين يعود الجنود إلى أهلهم في البعيد
– ومن يسكنُ البيت من بعدنا
يا أبي؟
– سيبقى على حاله مثلما كان
يا ولدي!’ ص32 ، 33
ولا يكتفي محمود درويش إزاء تجربة السجن، باستعادة بعض تفاصيل التجربة (حجم الأرض هنا متران مربعان لهما باب حديدي دائم الإغلاق. أصوات أحذية غليظة تحمل إليك حساء العدس المطبوخ بالسوس، فتدرك أن نهاراً جديداً قد حلّ ضيفاً على العالم.’ ص61 وإنما يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث يقوم بتأمل ما يعنيه السجن والسجان: ‘السجن هو حرمان الكائن من مشهد الشجرة والبحر. والحرية هي المخيلة القادرة على استدعائهما إلى السجن، وجعل ما ليس مرئياً مرئياً.’ص64
ولعلنا نعود إلى كتاب ‘ذاكرة للنسيان’ لنقرأ عن مكابدة درويش في السجن، موصوفة بلغة واقعية تماماً: ‘واعتدتُ أن أحصي عدد السوس في صحن حساء العدس. الطبق اليومي في السجون. واعتدت أن أتغلب على الاشمئزاز، لأن الشهية تتكيّف، ولأن الجوع أقوى من الشهية. ولكنني لم أتكيّف أبداً مع غياب القهوة الصباحية’. ص29
وفي معرض المقارنة بين ما ورد من وقائع في هذين الكتابين، لا بد من الانتباه إلى ما قاله محمود درويش غير مرة، ومفاده أنه يعود بين الحين والآخر، إلى ما كان هامشياً أو محدود الحضور في كتبه السابقة، ليلقي الضوء عليه من جديد، وينقله من الهامش إلى المركز. فإذا كان هذا الكلام منطبقاً على أسلوب درويش في الكتابة، وأظنه كذلك، فمن المفيد أن نلاحظ كيف ارتقت لغة درويش النثرية المتأملة المشغولة بالوصف، إلى ذرى جديدة. لنقرأ ما يلي في ‘ذاكرة للنسيان’:
‘الماء فرح الحواس وما يحيط بها من هواء. الماء هو الهواء المقطر الملموس المحسوس المغموس بالضوء.’ ص45 ولنقرأ كذلك: ‘الشرفة هي اعتداء الحياة على الموت. هي مقاومة الخوف من الحرب. لا أريد أن أخاف. لا أريد أن أخجل.’ ص234 ولنقرأ أيضاً: ‘النوم سواد يتفكك تدريجياً إلى رمادي وأبيض. النومُ أبيض انفصالٌ وأبيض. استقلالٌ وأبيض. ناعم وقوي وأبيض. النوم صحوة التعب وأنينُه الأخيرُ… وأبيض. للنوم أرض بيضاء وسماء بيضاء وبحر أبيض.’ ص238
ولنلاحظ كيف صعّد محمود درويش في كتابه ‘في حضرة الغياب’ هذا الأسلوب في الكتابة الذي ظهرت بشائره الأولى في ‘ذاكرة للنسيان’ نحو ذرى أبعد وأبعد: ‘المدن رائحة: عكا رائحةُ اليود البحري والبهارات. حيفا رائحة الصنوبر والشراشف المجعلكة. موسكو رائحة الفودكا على الثلج. القاهرة رائحة المانجو والزنجبيل. بيروت رائحة الشمس والبحر والدخان والليمون. باريس رائحة الخبز الطازج والأجبان ومشتقات الفتنة. دمشق رائحة الياسمين والفواكه المجففة. تونس رائحة مسك الليل والملح. الرباط رائحة الحناء والبخور والعسل.’ ص91 ولنقرأ: ‘الحنين مسامرةُ الغائب للغائب، والتفات البعيد إلى البعيد. الحنين عطش النبع إلى حاملات الجرار.’ ص119 ولنقرأ: ‘الفراشات خواطر مبعثرة، ومشاعرُ طائرة في الهواء.’ ص156 ويتكرر ذلك في الكتاب على شكل مقطوعات شعرية حيناً، وعلى شكل جمل نثرية بارعة حيناً آخر.
ولنواصل المقارنات. ففي كتاب ‘ذاكرة للنسيان’ يتحدث محمود درويش عن حادثتين في طفولته: ‘أمي البعيدة تفتح باب غرفتي وتقدم لي القهوة على طبق من قلبها، أداعبها: لماذا أذنت لي أن أضع ركبتي على السكين وأضغط لتبقى معي هذه الندبة؟ ولماذا أذنت لي أن أمتطي الحصان ما دام سرجه سيسقط ليسقطني تحته ولتبقى على جبيني هذه الندبة؟’ ص232
ثم يعود للتحدث عن هاتين الحادثتين في كتاب ‘في حضرة الغياب’ في سياق أشمل وفي إطار تأمل أوسع مدى: ‘هكذا سكنتك منذ البداية فتنة الثعلب والهاوية، وجرّك فضول القطط، دون حذرها، إلى ملامسة الخطر، فغافلت أهلك المشغولين بفرم أوراق التبغ بسكاكين حادة، وتناولت إحداها ووضعت على شفرتها ركبتك اليسرى، وضغطت لتعرف إن كانت السكين تفعل بلحمك الطري ما تفعله بأوراق التبغ، ففاجأك السائل الأحمر. ولم تتوجع إلا حين نزعوا السكين من ركبتك، وضمّدوا جرحك وعاقبوك على طيش التجربة.’ ص18
وأما حادثة السقوط عن ظهر الحصان، فهو يرويها في الكتاب نفسه على النحو التالي: ‘هناك سكنتك فتنة الطيران والعزلة. وهناك، حاولت أن تولد من حلمك، دون أن تدرك الفارق بين الحلم والخيال. في مساء ما، تسللتَ من خلوتك الشجرية إلى بوابة الدار الجنوبية ودعوت الحصان إلى الخروج معك، فأطاعك وخرج. وعلى محاذاة صخرة عالية أوقفت الحصان الفاتن وقفزت على ظهر أملس دون سرج. قادك، كما يقود الهواءُ سحابةً، إلى منحدر يؤدي إلى حقل لا نهاية له. فهمزته فاستجاب، وصار الهواء ريحاً فانتشيت: إني أطير. كل شيء يطير. الشجر، الأرض، الجهات، النباتات، الريح. ولا غاية من هذا الطيران سوى لذة الطيران إلى المجهول، حتى هبط الليل على المجهول وعلى المعلوم، وصار المكان أعمى. لم تعلم أنك قد سقطت. لكن الحصان العائد بلا فارسه الصغير هو مَنْ دلَّ أهلك على موقع طيشك. ضمدوا الجرح في حاجبك الأيمن، ثم عاقبوك.’ ص21
وقد تكرر في كتاب ‘في حضرة الغياب’، حديث محمود درويش عن خروجه من حيفا، فيما يشبه إعادة النظر في هذا الخروج. لنقرأ ما كتبه في هذا الصدد: ‘وقلت: ابتعدت قليلاً لأقترب، فقالوا: هذه هي طريقة النادم في الكلام. فهل ندمتَ حقاً على هذا السفر؟ قلت: لا أعرف ما دمت في أول الطريق.’ص68 . ومرة أخرى يقول: ‘وأصغيتَ إلى صوت فيك يناديك ويرميك بوخز الإبر، كلما وصلتَ إلى مفترق أو منحدر: لماذا… لماذا نزلتَ عن جبل الكرمل؟’ ص75 . ويقول وهو مقيم في القاهرة: ‘لكن، لماذا نزلتَ عن الكرمل؟ يغيب السؤال عن الآخرين ويحضر فيك وحدك، سرّياً خفيّاً كآلام الشبح التي يوقظها عُضْوٌ مبتور. فتقول: كفى هذا. وتنام.’ ص76 . ويقول وهو باقٍ في بيروت بينما خرجت المقاومة من هناك في السفن: ‘وتعترف بأنك أخطأت: لماذا نزلتُ عن الكرمل، ولم أكمل رحلتي مع إخوتي إلى البحر… إلى ما لا أعرف؟’ ص81 . ويقول وهو عائد إلى الكرمل بعد أوسلو: ‘فماذا تفعل حين تصل إلى الكرمل غير أن تسأل: لماذا نزلت عن الكرمل؟ وفي نفسك الأمارة بالحيرة جواب مبهم: لكي أتعلم المشي على طرق لا أعرفها.’ ص154
ثم نصل إلى بيت القصيد حينما يطرح درويش على نفسه أسئلة تصعّد السؤال عن النزول عن الكرمل إلى مستوى إشكالي، وتفتح الباب واسعاً على قلق الكائن الإنساني إزاء معضلة الوجود والعدم، وتضمر في الوقت نفسه إحساساً بعبث الرحلة الإنسانية المحكومة بالموت، حيث يترك محمود درويش هذا الإحساس موارباً، وذلك احتراماً منه لجلال عودته الناقصة إلى الوطن : ‘وعلى الطريق الساحلي تساءلت: وماذا لو بقيتُ في حيفا؟ ماذا لو بقيت في أيّ مكان؟ ماذا لو كنت؟ ماذا لو لم أكن. تتحاشى الوصول إلى الخلاصة: باطل الأباطيل، والكل باطل. فجأة يسقط مطر خفيف يبلل روحك. ‘ ص156
تنتهي السيرة بتأكيد رثاء الشاعر لنفسه، وبتحديد موقفه إزاء الخلود ورغباته تجاه جنازته وتجاه مواقف المعزين. ‘مسجى أمامي بلا ضجيج، هادئاً هادئاً، ولا رأي لك في ما حولك. فوقنا سماء محايدة.’ ص165
وهنا لا بد من الإشارة إلى تشابهٍ ما، في الإطار العام للبنية الفنية في الكتابين: ‘ذاكرة للنسيان’ و ‘في حضرة الغياب’. يبدأ الكتاب الأول بلحظة حلم أثناء النوم، الذي هو ‘موت مجازي’ بحسب درويش، يعقبها صحو حارق على وضع الحصار والقصف الذي تحياه بيروت، وينتهي بلحظة حلم أثناء النوم، حيث يتكرر الحلم الذي كان في البداية، ثم تعقبه لحظة صحو على الرحيل في السفن من بيروت، حيث لا يرى السارد لا ساحلاً ولا حمامة. ويبدأ الكتاب الثاني بلحظة موت تنداح خلالها وقائع من حياة السارد وتأملات في الحياة وفي الموت، وينتهي باللحظة نفسها التي تتكرر، بما يوحي بأن كل ما مر بنا من وقائع وتأملات، إنما كان استرجاعاً في لحظة الموت التي يعود السارد إلى تأكيد وجودها، وإلى استثمار هذا التأكيد بمزيد من التأملات المفتوحة على تأويلات عدة، ثم تعقب ذلك رحلة الكائن الإنساني الأخيرة، حيث ‘أرى طائراً يحملني ويحملك، ونحن جناحاه، إلى ما وراء الرؤيا، في رحلة لا نهاية لها ولا بداية، لا قصد ولا غاية.’ ص180
مجمل القول، إن هذه السيرة لا تعتمد إلا على القليل من وقائع الحياة الشخصية لمحمود دوريش، وهي تأمل فذّ -محمول على جناحي اللغة- في الحياة والموت والوجود والعدم والوطن والكتابة والمرأة والحب. يصدق عليها ما قاله د. محمد عبيد الله: ‘ على هذا النحو ينطلق الشاعر من وقائع حقيقية كما هو الحال في السيرة، لكنه يتحكم بصياغتها وينقلب على حدود السيرة ليتخذ من تلك الوقائع فرصة للجدل مع الموت ومحاكمته وتوطين النفس على احتماله.’ 12 وما قاله أيضاً: ‘ نرى ما يشبه السيرة المواربة، ونكاد ننسب الكتاب إلى السيرة، أو إلى صيغة من صيغ الأدب الشخصي، ولكن درويش أيضاً استخدم هذا النوع بطريقة حرة بعيدة عن مقتضيات الوقائعية السيرية وشروط السرد السيري، إنها سيرة بالنظر إلى أن الكتاب متعلق بحياة درويش وبتأملاته في الحياة.’ 13
إنها سيرة ذاتية، ولكن بأسلوب مختلف، وهي تحرض على مزيد من التأمل والبحث في نثر محمود درويش، وفي ما يشتمل عليه من تجريب عالي الكفاءة، ومن تقنية متفوقة وجماليات.